منع

كتاب الحيوان الصغير [9]: الحرب الدائمة، والقطة والفأرة، والتوازن الإستراتيجي

1.
كما يبدو [وأنَّ ما يبدو لا يعني أنه موجود] أنَّ القطة السوداء تتلصص (أو كما هو شائع القول: تتلصلص]. وفي أثناء هذه العملية شتبدأ، كما هو شائع أيضاً، بتنظيف نفسها بلعابها على أسلوب وضوء المسلمين الذي ينظفون أنفسهم عن طريق سراب "مواد تنظيف" التيمم!
غير أنها – والعهدة على خبراء الحيوان – لا تغتسل "ولا هُمْ يحزنون". فهي لا تحاول غير أنْ تزيل رائحتها حتى لا تكتشف الفئران وجودها!
2.
وذات الأمر يتعلق بالفأرة البيضاء الصغيرة:
تقوم بعملية تلصص على طريقتها من داخل كيس من الورق (ولكن من غير أنْ تغتسل بلعابها).
وهذا ما يضمن نوعاً من التوازن الإستراتيجي بينهما: التلصص المتبادل. وفي اللحظة التي يكلُّ فيها صَبْرُ احداهما فإنَّ التوازن يختلُّ وتحدث واحدة من اثنين:
إما الكارثة بالنسبة للفأرة – وإمَّا ضياع الوقت والجهد بالنسبة للقطة.
3.
ولكن ثمة طرف ثالث كان يراقب الموقف (يتلصص):
فعلى زجاج النافذة كانت تتراءى صورتي!
4.
هي حربٌ دائمة إذن.
ومن تعاريف "الحرب الدائمة" هو البداية المعلنة والنهاية الصامتة.
وبكلمات أخرى: إنَّها عصية على التنبؤ وتبدو النهاية وكأنها فكرة نظرية لا علاقة لها بالواقع.
فالحربُ تتحول إلى طريقة عيش. تتجدد لأقل حدثٍ أو سبب حتى يبدو وكأنَّ أحداث الأحلام وأضغاثها تستحيل إلى مسوغات لتجديد المعارك [الحرب العربية الإسرائلية مثال نموذجي].
ولهذا فإن التوازن الإستراتيجي الذي يسند ويدعم بقاء القطة والفأرة هو في جوهره وَهْمٌ وانهيار دائم (غير ملحوظ) لوجودهما وضياع لاحتمالات العيش المشترك.
ولست موقناً بأي حال من الأحوال أن القطة والفأرة تدركان أزمتهما.
5.
في الحروب البشرية الدائمة تُسهم أقلية من الطرفين في تأجيج الصراع و"صناعة" التبريرات. فالحرب تدر عليهم إمَّا بالأرباح وإمَّا تضمن لهم السلطة.
أما حرب القطط والفئران فإنَّ قضية الأرباح والسلطة تبدو فكرة عقيمة للغاية.
وإنَّ التوازن الإستراتجي لا يعدو أن يكون سراباً مثالياً. ورغم إدراكهما لهذا السراب فإنهما كسكان الصحراء الذين خبروا السراب واتقنوا معرفتهم به يقعون بين حين وآخر ضحية له!
[فكرة اعتراضية: إذا "صَحَّ" وَهْمُ المسلمين بتدخل "ربٍّ" ما في شؤون المخلوقات وتدبير كل تفصيل من تفاصيل وجودهم فكم هي درجة حماقة هذا "الرب" وتدني مستوى متطالباته للمتعة والتسلية لكي يتلذذ على مشهد القطط وهي تلهو بالفئران قبل التهامها؟!]
6.
على هذه الصفحة بالذات أرى الآن الفأرة البيضاء الصغيرة المتخفية خلف متراس من كيس ورقي وهي تراقب حركة القطة – وتتنصت على صوت خطواتها.
لكن الصمت يخيم تماماً.
والصمت لا يعني في مثل هذه الظروف غير الخطر المتستر بقناع السلم.
الفأرة تفضل أنْ تسمع خطوات القطة حتى تضع مخططاً لمصدرها وسرعتها واتجاهها – آخذة بنظر الاعتبار اتجاه الريح وسرعة الخطوات. وهكذا تستطيع أنْ تتخذ قراراً مناسباً وتكتيكاً يضمن لها السلامة.
أمَّا الصمت فلا يعني غير خطر محدق!
أمَّا إذا كانت تستخدم حاسة الشم فإن رائحة الطعام التي تنهال من نافذة مطبخ العجوز صاحبة القطة تخلط الروائح وتقوم الريح الباردة التي تهب منذ الصباح بحمل الروائح بعيداُ عن مواقع الفأرة: الكيس الورقي.
7.
وأخيراً ملَّت القطة من المراقبة والتلصص وقررت الانسحاب بأقل الخسائر: مضيعة الوقت.
وهذه هي المفارقة:
القطة تظن بأن ضياع الوقت هو أقل الخسائر – وكأنها تحمل ثقافة المسلمين الذين يسمون الوقت خارج ساعات العمل: "وقت فراغ"!

وإذا كان للقطة الكثير من الوقت المُرَشَّح للضياع فهل تستوي الأمور نفسها بالنسبة للفأرة؟
(هل ثمة علاقة ما بين طول الوقت وحجم الكائن الفاقد للوقت؟!)
عادت القطة إلى داخل البيت فالتقت عند باب المطبخ بصاحبتها العجوز التي بادرتها قائلة:
- هل ما تزالين في حربك يا آنسة؟
- مياو ...
قالت القطة غير مكترثة. ثم عَبَرْت سيدتها من بين أقدامها إلى إناء الماء المخصص لها. وبعد أنْ ارتوت أضافت قائلة:
- مياو ...
- لقد انتهى زمن الحروب يا آنسة. ألم تتعلمي الدرس؟
- مياو .. مياو ..
ردت القطة وكأنها تبرر سلوكها في الحرب الباردة.
- هكذا تقولين دائماً: الفأرة هي التي بدأت!
الحرب ليست وجهة نظر، بل خراب بيوت يا آنسة.
قالت العجوز التي رأت بعينيها فواجع الحرب العالمية الثانية وكيف كانت الطائرات تحصد البشر والحيوانات والبيوت؛ كما وتذوقت مرارة الخسائر التي لا يمكن تعويضها. بل كانت شاهداً على فواجع الوجود البشري بأكمله وكيف كانَ على وشك الانهيار.
8.
عندما اندلعت الحرب كان عمرها سبع سنوات. وعندما تم إعلان نهايتها وجدت نفسها عجوزاً!
9.
كنتُ أراقب من النافذة المطلة على الحديقة بعض أحداث الحرب الدائمة وكنت أرى القطة السوداء التي في لحظة ما يبدو وكأنها ملت الانتظار. ثم أخذت تتثاءب ما لبثت أن قررت الانسحاب – وبكلمة أدق الانسحاب المؤقت.
10.
هل انتهت الحرب؟
لا أعرف.
ولهذا السبب ربما ثمة بقية للموضوع . . .



ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

أحدث المقالات:

كتاب: حكاية الحمار العجيبة الذي قرر أن يكون مؤذناً!

المواضيع الأكثر قراءة:

◄ أربعة مقالات حول: خرافة "الرحمة" في الإسلام!

هل كان آينشتاين مؤمناً؟

مقالات عن الشيعة: اساطير التاريخ وأوهام الحاضر