منع

هل المجتمعات الإسلامية متخلفة؟[2] غياب العقلانية وحرية الإرادة



[قُلْ بِرِضَاك وَبِرَحَابَة صَدْرٍ وبكلِّ مرح وسرور ومِنْ غَيْرِ إجْبَار إنَّ سببَ تَخَلُّف المسلمين ليس الإسلام، بلْ الطَّقْسُ الحَارِّ!]

هل المجتمعات الإسلامية متخلفة؟
محاولة للإجابة:
1.
لقد طرحتُ هذا السؤال في الحلقة السابقة وأنا أدرك جيداً الصعوبات الكثيرة التي ستواجه المسلم العلني والمستتر - إنْ قرر الإجابة وإنْ قرر أن يلتزم بالعقلانية المستندة إلى الوقائع التجريبية وليس الثرثرة الكلامية!
وإذا كنتُ من حيث المبدأ لا أنتظر أي نوع من الإجابة فإنني من جهة أخرى لم أكتب يوماً حرفاً واحداً ولن أكتب هذا الحرف في المستقبل لغرض تبادل وجهات النظر مع المجاهدين. فهذا أمر عبثي!
إن هدفي كان ولا يزال نقد اللاهوت الإسلامي مستنداً إلى النقد الثقافي الشامل الذي لا يفهمه السذج.
النقد الثقافي هو نقد شامل للبنية الثقافية التي يستند إليها الإسلام في مجالات اللاهوت والحقوق والاقتصاد والسياسية.
2.
لكن الشكَّ في عجز المؤمن العلني والمستتر عن الإجابة هو أمرٌ أقرب إلى الجواب المعلن مسبقاً وما طَرْحُ السؤال إلا محاولة للعثور على "بارقة أمل" بين ركام العقائد المغلقة على نفسها مستشهداً ببيت الطغرائي:
أُعَلِّلُ النَّفْسَ بالآمَالِ أرْقُبُهَا
ما أضْيَقَ العَيْشَ لُولا فُسْحَةُ الأملِ
ولكن لم يتجرأ أحد منهم على الإجابة واختفوا خلف وشاح الحكمة الفاسدة: الصَّمت مِنْ ذَهَبٍ!
هل الصمتُ على التخلف يصنع ذهباً؟!
وما حدث لم يكن مفاجأة!
3.
خلافاً للاديني والملحد فإن المسلم العلني والمستتر غارق حتى أذنيه في الوهم. وهذا "الغرق في الوهم " يمنعه من رؤية الواقع الذي يعيش فيه.
إنه لا يتنفس!
فهو بكلمة أدق: يعيش في الدين وما الواقع الخارجي إلا انعكاس "لإرادة وحكمة خالقه الموهوم". وإن هذه "الإرادة" و"الحكمة" فرضية لم ير المسلم يوماً تطبيقاً لها ولن يرى (هذا وعدٌ)!
هو كالمدمن على المخدرات، عاجز عن إدراك الكارثة التي صنعها بنفسه وأصبح هو نفسه ضحية لها. ولهذا فإن أول خطوة في علاج ضحايا المخدرات، التي تحولت إلى حجر زاوية في آليات العلاج في جميع المصحات المتخصصة في العالم، هو أن يدرك (ويعترف) الشخص الذي يتعاطى المخدرات بمشكلته وأن "يرغب" في علاجها.
بدون أدراك المشكلة والاستعداد لحلها لا يمكن الحديث عن أي تقدم.
4.
وهذا هو المفتاح إلى فهم آلية تفكير المتدينين:
الوهم الديني والذي يعني عجزهم عن إدراك وضعهم الحقيقي في المكان والزمان وعجزهم عن طلب المساعدة.
لكن الكارثة العربية (والإسلامية بصورة عامة) هي أن مَنْ يقود الدولة العربية سياسياً واقتصادياً وأكاديمياً هو ذات النوع من المسلمين الغارقين في الوهم والذي يبدأ اجتماع مناقشة الخطة الاقتصادية بعبارة "بسم الله الرحمن الرحيم"!
5.
ولكي نستطيع الإجابة على السؤال المطروح " هل المجتمعات الإسلامية متخلفة؟" أجد من اللازم الانطلاق من البداية حتى نسد الثغرات التي يبحث عنها المتدين العلني والمستتر في المواقف المناوئة للدين. فهو الباحث عن الثغرات: بل هو عن حقٍ سيد الباحثين عن الثغرات!
حسناً:
لماذا تُربط قضية التخلف بالدين؟
ما هو أثر الدين على التطور؟
ما الذي سيحصل بإلغاء أثر الدين على المجتمع؟
هل سيخسر المجتمع عندما نخسر الدين؟
هذه أسئلة معيارية لا يمكن التَّهرُّب منها بوسائل مدرسية أكلَ عليه الدهر وشرب.
6.
العقلانية الاقتصادية:
لقد أثبت العالم السوسيولوجي ماكس فيبر في كتابه الشهير " الأخلاق البروتستانتية وروح الرأسمالية" الدور السلبي للعقيدة الكاثوليكية في التطور العام للمجتمع. وكان عليه أن يطرح السؤال التاريخي عن حق:
لماذا تظهر أكثر المناطق تقدماً من الناحية الاقتصادية مؤهلة بشكل خاص وفي ذات الوقت أن تحتضن عملية ثورية داخل الكنيسة الكاثوليكية؟
ويلاحظ فيبر بأن النزوع إلى التحرر من الاتجاه الاقتصادي التقليدي هو أحد العوامل التي تعزز الميل إلى التشكيك بالتراث الديني وإلى التمرد على السلطات التقليدية وقد مهدت تعاليم مارتن لوثر إلى هذا النزوع نحو التحرر. وعندما نتحدث عن التطور الاقتصادي فإن هذا التطور لا ينفصل بأي حال من الأحوال عن التطور العلمي – النظري والتكنولوجي، حتى بدى بأنَّ الأول حصيلة الثاني والثاني نتيجة للأول.
إن نضال لوثر لم يكن ضد "الكتاب المقدس". وهذا أمر ينبغي إدراكه بصورة واضحة. إنَّ مشكلته الحقيقية هي السلطة التقليدية للكنيسة الكاثوليكية التي كانت تهيمن على إرادة الفرد.
إلا أن هذا النضال ضد ممارسات الكنيسة الكاثوليكية أخذت مارتن لوثر بعيداً عما كان يعتقده في البداية خارج إرادته. إذ تحول التحرير من هيمنة الكنيسة ورجال اللاهوت إلى تحرير حرية الفرد من سلطة الكنيسة. فبدون هذه "الحرية" لا يمكن له أن يفصل أنصاره نهائياً عن الكنيسة الكاثوليكية.
إنَّ تحرر البروتستانت من قيود السلطة الدينية التقليدية قد كشف عن استعداد خاص للعقلانية الاقتصادية. وما يثير الاهتمام هنا هو أن هذه العقلانية كانت قائمة في مختلف الشروط التي مرت بها الجماعات البروتستانتية: سواء عندما كانت مجرد أقلية في المجتمع أم أكثرية، شريحة مُسَيْطِرَة أم مُسَيْطَرٌ عليها. وهذا ما لم يكن ملحوظاً عند الكاثوليك كظاهرة في ذات الشروط المختلفة.
7.
حرية الإرادة:
بصدد نقده لمارتن لوثر بالذات يرفض ديسيدريوس إيراسموس حرية الإرادة [حرية الإرادة، 2014]. ولا يتوانى المؤلف أن يؤسس منطق الرفض هذا حتى قبل أن يعرض تصوراته وكأنه يريد أن يوحي إلى هذه التصورات مسبقاً:
"وأنا أيضاً أكره كثيراً التأكيدات وأفضل آراء التشكيك حيث تتيح ذلك سلطة الكتاب المقدس الذي تُنتهك حرمته وحيثما تتيح ذلك سلطات الكنيسة التي أخضع آرائي لها طواعية سواء فهمت ما تمليه أو لم أفهم" .
فالكتاب المقدس من وجهة نظر إيراسموس "يحتوي على أسرار لم يرغب الرب في مناقشتها بعمق لأننا إن حاولنا ذلك، سيزيد الظلام المحيط بنا لدرجة قد ندرك معها عظمة الحكمة الإلهية التي لا يمكن سبر أغوارها وضعف العقل البشري"!
لماذا؟
يقول إيراسموس:
"لم يعتد الإنسان على اقتحام الغيبيات، ولا حتى بالتساؤل المدفوع بفضول غير ديني عما إذا كان العلم المسبق للرب بالكون طارئاً أم أزلياً؟ وما إذا كانت إراداتنا تسهم في خلاصنا الأبدي أم خاضعة للعفو الرباني؟ وإذا كان كل شيء نفعله بفعل الحتمية فقط أم أننا في حالة قبول سلبي لأفعالنا والرب أراد أن تظل بعض الأمور غيبية محجوبة عنا كموعد الوفاة ويوم الحساب"!
هل يذكركم هذا اللغو بكلام آخر أقرب إلينا ويستوي أمامنا كل يوم في مملكة الظلام؟
8.
الإصلاحات المُحْبَطَة:
على ضوء هذا المنطق يمكن أن نفهم أهمية الإصلاحات العميقة التي قام بها مارتن لوثر في الكنيسة الكاثوليكية في القرن السادس عشر.
إن تحرير إرادة الفرد من براثن سلطة دينية مغلقة على المستقبل تَحوَّلَ إلى حافز للتطور الثقافي الشامل والذي رأينا أولى مظاهره في الثورة التكنولوجية والنمو الاقتصادي في أوربا - وهذا وما لم يحدث بأي شكل من الأشكال في الإسلام.
فقد فشلت ما تسمى بـ"حركة الإصلاح" في المنطقة العربية في آواخر القرن التاسع عشر من تحرير إرادة الفرد من فكرة الخضوع والعبودية الغيبية.
فما قام به الكواكبي ومحمد عبد مثلاً لم يكن غير محاولة لملائمة الإسلام لعصر الحداثة. غير هذه المحاولة كانت خالية بصورة مأساوية من أي نقد للعناصر المكون للعقيدة الإسلامية التي كانت ولا تزال توجه المسلم صوب عصور الظلام وليس المستقبل. بل يمكن القول إن ما قامت به حركة الإصلاح "المتنورة" لا يختلف عما قامت به الوهابية: تدعيم مركزية الإسلام من جهة ودمج هذه المركزية في إطار الدولة القومية المرتقبة.
8.
لا شك أن الكواكبي قد أدان الاستبداد في مختلف أشكاله في "طبائع الاستبداد" واعتبر أنَّ الحلَّ في إنهاء الاستبداد. لكنه لم ير في الاستبداد إلا خروجاً عن الإسلام القويم ونتيجة لتفسيرات فقهاء السلاطين. وهو لا يرى في "القريان" إلا مثالاً على التعاليم المناهضة للاستبداد:
"وهذا القرآن الكريم مشحون بتعاليم إماتة الاستبداد وإحياء العدل والتساوي حتى في القصص منه [...]
"بناء على ما تقدم لا مجال لرمي الإسلامية بتأييد الاستبداد مع تأسيسها على مئات من أمثال هذه الآيات البينات التي منها قوله تعالى وَشَاوِرْهُمْ فِي الأمْرِ أي في الشأن، ومن قوله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الأمْرِ مِنْكُمْ أي أصحاب الرأي والشأن منكم، وهم العلماء والرؤساء على ما اتفق عليه أكثر المفسرين، وهم الأشراف في اصطلاح السياسيين".
وما الحل في هذه الحالة؟
أما في كتاب "أم القرى مؤتمر النهضة الإسلاميّة الأوّل" فهو يؤسس أو ل مؤتمر للمسلمين وفي مكة بالذات داعياً إلى كل شيء وناقداً كل شيء يعيق تطور المسلمين ما عدا أيديولوجية كتاب محمد التي أثبت تطور الأحداث خلال القرن العشرين بأنها هي السبب المباشر في التخلف والإرهاب للمجتمع الإسلامي وليس "قشور الدين".
إن كارثة المسلمين هي العقائد التي يقررها كتاب محمد وأحاديث السنة والشيعة وليس في التصورات المتخلفة عن الإسلام فقط.
9.
وهذا هو بالذات ما نراه الآن:
الدولة العربية الحالية هي دولة المركزية الإسلامية الملتزمة بمقومات الإسلام اللاهوتية (في كتاب محمد) وظهور المرجعية السلفية السنية والشيعية والتي هي المعادل الموضوعي لسلطة الكنيسة الكاثوليكية آنذاك.
وقد أدت مساعي مارتن لوثر إلى فصل الفرد عن سلطة الكنيسة البابوية ومعايير التقوى التي تعيق انخراط الإنسان الكامل في مباهج الحياة لم يحرر إرادته فقط بل مهد لفكرة كون النشاط الاقتصادي والنجاح في العمل لا يقل تقوى عن الطقوس الدينية. وهذا ما أدى بدوره إلى تقبل فكرة انفصال العبادة عن سلطة الدولة.
لم يقم جميع رموز حركة الإصلاح المسلمين بأية محاولة – بل لم يكن حتى يخطر على بالهم أن يقوموا بهذه المحاولة وهي فصل الدين عن الدولة: الشرط الذي أدركته جميع المجتمعات الغربية من أجل الشروع بالنهضة الثقافية الشاملة على مستوى الاقتصاد والعلم والتعليم وفي جميع مجالات الحياة. وإذ كان الاقتصاد في مقدمتها فإنه واحد من المحركات الفعالة للتغير والنمو.



ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

كتاب: حكاية الحمار العجيبة الذي قرر أن يكون مؤذناً!

المواضيع الأكثر قراءة:

◄ أربعة مقالات حول: خرافة "الرحمة" في الإسلام!

هل كان آينشتاين مؤمناً؟

مقالات عن الشيعة: اساطير التاريخ وأوهام الحاضر