منع

‏إظهار الرسائل ذات التسميات كتاب الحيوان الصغير. إظهار كافة الرسائل
‏إظهار الرسائل ذات التسميات كتاب الحيوان الصغير. إظهار كافة الرسائل

كتاب الحيوان الصغير [9]: الحرب الدائمة، والقطة والفأرة، والتوازن الإستراتيجي

1.
كما يبدو [وأنَّ ما يبدو لا يعني أنه موجود] أنَّ القطة السوداء تتلصص (أو كما هو شائع القول: تتلصلص]. وفي أثناء هذه العملية شتبدأ، كما هو شائع أيضاً، بتنظيف نفسها بلعابها على أسلوب وضوء المسلمين الذي ينظفون أنفسهم عن طريق سراب "مواد تنظيف" التيمم!
غير أنها – والعهدة على خبراء الحيوان – لا تغتسل "ولا هُمْ يحزنون". فهي لا تحاول غير أنْ تزيل رائحتها حتى لا تكتشف الفئران وجودها!
2.
وذات الأمر يتعلق بالفأرة البيضاء الصغيرة:
تقوم بعملية تلصص على طريقتها من داخل كيس من الورق (ولكن من غير أنْ تغتسل بلعابها).
وهذا ما يضمن نوعاً من التوازن الإستراتيجي بينهما: التلصص المتبادل. وفي اللحظة التي يكلُّ فيها صَبْرُ احداهما فإنَّ التوازن يختلُّ وتحدث واحدة من اثنين:
إما الكارثة بالنسبة للفأرة – وإمَّا ضياع الوقت والجهد بالنسبة للقطة.
3.
ولكن ثمة طرف ثالث كان يراقب الموقف (يتلصص):
فعلى زجاج النافذة كانت تتراءى صورتي!
4.
هي حربٌ دائمة إذن.
ومن تعاريف "الحرب الدائمة" هو البداية المعلنة والنهاية الصامتة.
وبكلمات أخرى: إنَّها عصية على التنبؤ وتبدو النهاية وكأنها فكرة نظرية لا علاقة لها بالواقع.
فالحربُ تتحول إلى طريقة عيش. تتجدد لأقل حدثٍ أو سبب حتى يبدو وكأنَّ أحداث الأحلام وأضغاثها تستحيل إلى مسوغات لتجديد المعارك [الحرب العربية الإسرائلية مثال نموذجي].
ولهذا فإن التوازن الإستراتيجي الذي يسند ويدعم بقاء القطة والفأرة هو في جوهره وَهْمٌ وانهيار دائم (غير ملحوظ) لوجودهما وضياع لاحتمالات العيش المشترك.
ولست موقناً بأي حال من الأحوال أن القطة والفأرة تدركان أزمتهما.
5.
في الحروب البشرية الدائمة تُسهم أقلية من الطرفين في تأجيج الصراع و"صناعة" التبريرات. فالحرب تدر عليهم إمَّا بالأرباح وإمَّا تضمن لهم السلطة.
أما حرب القطط والفئران فإنَّ قضية الأرباح والسلطة تبدو فكرة عقيمة للغاية.
وإنَّ التوازن الإستراتجي لا يعدو أن يكون سراباً مثالياً. ورغم إدراكهما لهذا السراب فإنهما كسكان الصحراء الذين خبروا السراب واتقنوا معرفتهم به يقعون بين حين وآخر ضحية له!
[فكرة اعتراضية: إذا "صَحَّ" وَهْمُ المسلمين بتدخل "ربٍّ" ما في شؤون المخلوقات وتدبير كل تفصيل من تفاصيل وجودهم فكم هي درجة حماقة هذا "الرب" وتدني مستوى متطالباته للمتعة والتسلية لكي يتلذذ على مشهد القطط وهي تلهو بالفئران قبل التهامها؟!]
6.
على هذه الصفحة بالذات أرى الآن الفأرة البيضاء الصغيرة المتخفية خلف متراس من كيس ورقي وهي تراقب حركة القطة – وتتنصت على صوت خطواتها.
لكن الصمت يخيم تماماً.
والصمت لا يعني في مثل هذه الظروف غير الخطر المتستر بقناع السلم.
الفأرة تفضل أنْ تسمع خطوات القطة حتى تضع مخططاً لمصدرها وسرعتها واتجاهها – آخذة بنظر الاعتبار اتجاه الريح وسرعة الخطوات. وهكذا تستطيع أنْ تتخذ قراراً مناسباً وتكتيكاً يضمن لها السلامة.
أمَّا الصمت فلا يعني غير خطر محدق!
أمَّا إذا كانت تستخدم حاسة الشم فإن رائحة الطعام التي تنهال من نافذة مطبخ العجوز صاحبة القطة تخلط الروائح وتقوم الريح الباردة التي تهب منذ الصباح بحمل الروائح بعيداُ عن مواقع الفأرة: الكيس الورقي.
7.
وأخيراً ملَّت القطة من المراقبة والتلصص وقررت الانسحاب بأقل الخسائر: مضيعة الوقت.
وهذه هي المفارقة:
القطة تظن بأن ضياع الوقت هو أقل الخسائر – وكأنها تحمل ثقافة المسلمين الذين يسمون الوقت خارج ساعات العمل: "وقت فراغ"!

وإذا كان للقطة الكثير من الوقت المُرَشَّح للضياع فهل تستوي الأمور نفسها بالنسبة للفأرة؟
(هل ثمة علاقة ما بين طول الوقت وحجم الكائن الفاقد للوقت؟!)
عادت القطة إلى داخل البيت فالتقت عند باب المطبخ بصاحبتها العجوز التي بادرتها قائلة:
- هل ما تزالين في حربك يا آنسة؟
- مياو ...
قالت القطة غير مكترثة. ثم عَبَرْت سيدتها من بين أقدامها إلى إناء الماء المخصص لها. وبعد أنْ ارتوت أضافت قائلة:
- مياو ...
- لقد انتهى زمن الحروب يا آنسة. ألم تتعلمي الدرس؟
- مياو .. مياو ..
ردت القطة وكأنها تبرر سلوكها في الحرب الباردة.
- هكذا تقولين دائماً: الفأرة هي التي بدأت!
الحرب ليست وجهة نظر، بل خراب بيوت يا آنسة.
قالت العجوز التي رأت بعينيها فواجع الحرب العالمية الثانية وكيف كانت الطائرات تحصد البشر والحيوانات والبيوت؛ كما وتذوقت مرارة الخسائر التي لا يمكن تعويضها. بل كانت شاهداً على فواجع الوجود البشري بأكمله وكيف كانَ على وشك الانهيار.
8.
عندما اندلعت الحرب كان عمرها سبع سنوات. وعندما تم إعلان نهايتها وجدت نفسها عجوزاً!
9.
كنتُ أراقب من النافذة المطلة على الحديقة بعض أحداث الحرب الدائمة وكنت أرى القطة السوداء التي في لحظة ما يبدو وكأنها ملت الانتظار. ثم أخذت تتثاءب ما لبثت أن قررت الانسحاب – وبكلمة أدق الانسحاب المؤقت.
10.
هل انتهت الحرب؟
لا أعرف.
ولهذا السبب ربما ثمة بقية للموضوع . . .



كتاب الحيوان الصغير [8]: معجزة الدجاجة وثقافة الفجاجة!

استهلال قبل ظهور الهلال:
معجزة الدجاجة:
" في أحد الأعوام – وقد صار ابنها من الفتيان – اشتاقت إليه وإلى شيخه فشدت الرحال إلى دسوق. بدأت المسير بعد أذان الفجر مباشرة؛ وصلت خلوة الشيخ بعد الظهيرة بوقت طويل. لحظتها كان الشيخ يتناول غداؤه داخل الخلوة، وكان ابنها سالم قد كبر وتغير شكله من شدة الإمعان في الزهد حتى صار جلداً على عظم يتسربل بخرق بالية، لدرجة أنها لم تتعرف عليه وهو جالس وحده على باب الخلوة. اقتحمت الباب إلى الشيخ مباشرة، مالت إليه فقبلت جبينه، سحب يده المشغولة بالطعام طبعت على ظاهرها قبلة، انخرطت في الدعاء له.
بنظرته الثاقبة عرفها الشيخ فابتسم قال لها:
-"كيف حالك يا أم سالم؟!"
-"بخبر يا مولانا طالما أنت راض عني!"
-"لعلك تسألين عن ابنك؟"
-"وعنك قبله يا مولانا!"
بيده أشار إلى باب الخلوة، فنظرت في الرجل الجالس على الارض يأكل هو الآخر. جمعت نظرها ما أمام الشيخ فإذا هي دجاجة مشوية عطرة الرائحة، والشيخ يفصص لحمها على مهل شديد، يلوكه في غير التذاذ. ثم انتقلت نظرتها إلى ابنها فوجدت أمامه طبقاً من المش واللفت، وعلى فخذه رغيف مقدد وبعض أعواد الفجل. قلب الولية أكلها. عقلها الريفي البسيط عجز عن استيعاب هذه التفرقة من شيخ من كبار أهل الله الطيبين. انفلت لسانها رغماً عنها:
-"متأخذنيش يا مولانا! بقى ده يصح برضه؟ تأكل فرخة مشوية! والولد يا قلب أمه يأكل مش حادق! وهو بيخدمك ليل نهار؟! أنا لمؤاخذه باسأل بس يعني!"

نظر إليها أبو العينين باسما؛ وكان قد انتهى من أكل الدجاجة فلم يبق منها سوى كومة صغيرة من العظم والشفت. قال:
-"تريدين معرفة السبب يا خاله؟"
-"فقط يا مولاي"
فسحب أبو العينين نظرته عن أم سالم فألقى بها فوق كومة العظم الممصوص، فشوح بذراعه صائحاً فيها:
-"هش قومي!"
فإذا بالدجاجة قد نهضت من كومة العظم واقفة تقأقئ وتجري إلى الخلاء. فنظر إلى المرأة المذهولة وقال لها:
-"حين يستطيع ابنك فعل هذه يحق له أن يأكلها!!"
فأُلقمت المرأة حجرا؛ سلمت على الشيخ طلبت عفوه، ثم على ابنها طلبت دعاءه، وعادت إلى دارها في البلد".
[من رواية: "بغلة العَرْش" لخيري شلبي]
"بغلة العرش" رواية تُشَرِّح الطابع الخرافي للثقافة الإسلامية (سنةً وشيعةً) المنتشرة في الأرياف العربية.

الشيخ كثير التطور!:




" وينقل الشيخ أحمد حجاب عن الشيخ حسن أبو علي أنه كثير التطور. تدخل عليه فتجده جندياً، وأحياناً تجده صبياً، وأحياناً تجده سبعاً أو فيلا، ويستشهد بما قاله الشعراني في ترجمة الشيخ حسن أبو علي قوله (إن من خصائص هذه الفئة من الأولياء أن الصورة التي يتمثلون بها لا تحكم عليهم بها، بمعنى أنك لو أحدثت في الصورة المثلة مثلاً أو ضرباً أو حبساً أو أي ضرر آخر لم يظهر لذلك أثراً في الصورة الأصلية، ومثل ذلك كمثل التمثيل الحسي الذي يرى بالبصر، والتمثيل المعنوي الذي يكون في المنام فإنه لو تم تمثل ذلك في المنام بذاته وصفاته وضربت أحدا بالسكين فسال دمه فإن هذا لا يؤثر في عدوك الحقيقي أي تأثير – ويرى أنه لما كانت روح سيدنا عيسى علوية ملائكية مشرقة الأنوار الإلهية كانت أقدر على التمثيل من أرواح الأولياء"
[من كتاب: "معجم ألفاظ الصوفية" لحسن الشرقاوي]
المؤلف يتحدث عن الصوفية بِوَلَهٍ ومحبة غامرة وإيمان عميق!

الأدلة الخرافية: ثقافة الفجاجة
[ليس في هذا الحجر غير عيب واحد: ليس له طائفه تقدسه!]
ليتحمل القارئ وليتسلح بالصبر والحكمة وليقرأ الصناعة الروائية الرثة التالية التي تشكل "واحدة من أهم الأدلة التجريبية" على إمامة هذا المستور أو ذاك القائم والحاضر من "أئمة" الشيعة المعتبرين.

فالسخف ليس سمة خارجية بل هو جزء من نسيج الخرافة، لا تستقيم به ولا تكون إلا به:

" لما قتل الحسين عليه السلام أرسل محمد بن الحنفية إلى علي بن الحسين عليهما السلام فخلا به فقال له: يا ابن أخي قد علمت أن رسول الله صلى الله عليه وآله دفع الوصية والإمامة من بعده إلى أمير المؤمنين عليه السلام ثم إلى الحسن عليه السلام، ثم إلى الحسين عليه السلام وقد قتل أبوك رضي الله عنه وصلي على روحه ولم يوص، وأنا عمك وصنو أبيك وولادتي من علي عليه السلام في سني وقديمي أحق بها منك في حداثتك، فلا تنازعني في الوصية والإمامة ولا تحاجني، فقال له علي بن الحسين عليه السلام: يا عم اتق الله ولا تدع ما ليس لك بحق إني أعظك أن تكون من الجاهلين[...] إن الله عز وجل جعل الوصية والإمامة في عقب الحسين عليه السلام فإذا أردت أن تعلم ذلك فانطلق بنا إلى الحجر الأسود حتى نتحاكم إليه ونسأله عن ذلك قال أبو جعفر عليه السلام: وكان الكلام بينهما بمكة، فانطلقا حتى أتيا الحجر الأسود، فقال علي بن الحسين لمحمد بن الحنفية: ابدأ أنت فابتهل إلى الله عز وجل وسله أن ينطق لك الحجر ثم سل، فابتهل محمد في الدعاء وسأل الله ثم دعا الحجر فلم يجبه، فقال علي بن الحسين عليهما السلام: يا عم لو كنت وصيا وإماما لأجابك، قال له محمد: فادع الله أنت يا ابن أخي وسله، فدعا الله علي بن الحسين عليهما السلام بما أراد ثم قال: أسألك بالذي جعل فيك ميثاق الأنبياء وميثاق الأوصياء وميثاق الناس أجمعين لما أخبرتنا من الوصي و الامام بعد الحسين بن علي عليه السلام؟ قال: فتحرك الحجر حتى كاد ان يزول عن موضعه، ثم أنطقه الله عز وجل بلسان عربي مبين، فقال: اللهم إن الوصية والإمامة بعد الحسين ابن علي عليهما السلام إلى علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب وابن فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وآله قال: فانصرف محمد بن علي وهو يتولى علي بن الحسين عليه السلام"!
[الكافي الجزء1، طبعة منشورات الفجر - بيروت 2007]
ملاحظة:
المؤلف من شيوخ الحديث الشيعة. وخرافات الكافي هي المعادل الشيعي لخرافات البخاري السنية.
إذن: هو مصدر معتبر من مصادر الشيعة "العلمية" المعتبرة!
1.
ليست هذه النماذج "الثقافية" مُسْتَلَّة من خارج السياق الثقافي الإسلامي، بل هي مضمون هذا السياق وجزء من "منطقه!" الذي يتعارض مع المنطق العقلاني النقدي.
بل يمكن القول بتأكيد وإصرار:
أنَّ القناعات الدينية سوف تتهشم لو تم تبريرها بالمنطق. فالوسائل الساذجة للإقناع هي الطريق السلسلة إلى "قلوب!" السذج.
إنَّ السذج والمغفلين لا يتقبلون من رجال اللاهوت أي نوع من التصورات" الجديدة" أو القناعات "الجديدة". ففي حقيقة الأمر إنهم يواصلون (ومهما حاول أن يغير أو يحور شيوخ اللاهوت تصوراتهم لأغراض زمنية) ذات التصورات والقناعات. ولهذا فإن على شيوخ اللاهوت مواصلة وتدعيم الثقافة المغفلة التقليدية صوتياً لا غير.
2.
مَنْ مِنْ مستمعي الحسينيات والجوامع السنية مشغول بـ"تأملات" الشيوخ؟
السذج والمغفلون يذهبون إلى الحسينيات والجوامع لا ليتعلموا أشياء جديدة (إنْ كان في هذه الحسينيات والجوامع أشياء جديدة!) بل لكي يواصلوا معتقداتهم التي يحملونها وطقوس الخرافة التي بدأوها منذ ساعة الفجر والولادة وغير مستعدين للتفكير أو إعادة التفكير بها.

بمعنى واضح: أنَّ "الحضور" الشيء الوحيد الذي له قيمة.

إنه نوع من التحديث (update) اليومي أو الأسبوعي لذات العقائد والتصورات، حيث يجري انعاشها والتأكد من وجودها.
فالتطبيق "application" ذاته ولا يجب أن يتغير:
العقيدة الخرافية والتصورات الغيبية للذات والآخرين والكون.
وإن عمل الجوامع والحسنيات الشيعية هو أنعاش التطبيق.
فإذا قال الشيخ (غالباً ما يكون الجزء الأعظم من شيوخ وملالي الأرياف أميين بالمعني الحرفي للكلمة) إنَّ عليهم معاداة المخالفين لطائفتهم– فإنهم عملياً مستعدون سيكولوجياً وعقائدياً لهذه الفتوى. فـ"التطبيق" العقائدي والطائفي يحمل هذا النوع من الإمكانيات.
وإذا استعملنا لغة الفلسفة:
فإنَّ "معادة المخالف" هو عقيدة بالقوة – إنها قائمة في آليات تفكير وثقافة السذج والمغفلين، الأكثرية الغالبة من جمهور الجوامع والحسينيات.
لكن ما هو موجود "بالقوة" لا يعني دائماً بأنه سوف يتحقق "بالفعل" (= في طور التنفيذ). فهذا الأمر = التنفيذ لا يحتاج إلى إقناع فهو قائم بصورة مسبقة، وإنما يحتاج إلى استعدادات ومؤهلات سيكولوجية ذاتية من أجل التنفيذ هي من نوع آخر لا تكفي العقيدة وحدها في تشكيل هذه المؤهلات.
وهذا هو الفارق الذي يميز المسلم "المسالم!" والمسلم الجهادي.
إنه الفارق ما بين القرارات والاستعدادات الدينية الطائفية "بالقوة" والقرارات والاستعدادات الدينية الطائفية "بالفعل".
3.
ثقافة الدجاجة:

كيف استطاع الشيخ "أبو العينين" أنْ يُحَوِّل العظم الممصوص إلى دجاجة؟
إنْ احْتَكَمَ القارئُ إلى عقله فحسب رافضاً هذا "التحويل" ناطراً إليه بعينين "نقديتين" فإن حُكْمَهُ بالغ الشطط "!" أولاً، ولن تتم عملية "التحويل" مطلقاً ثانياً.
فثمة "رؤية" و"رؤيا":
فإذا كانت "الرؤية" بالعينين لا تقبل تحول العظم إلى دجاجة؛ فإن "الرؤيا" هي بـ"القلب!" ومن السهل عليها حتى أن تتحول الدجاجة إلى كنغر.
و "أم سالم"، ومثلها الملايين، قد رأت ظهور الدجاجة بـ"قلبها" العامر بالأيمان والتصديق بالشيخ أبي العينين. غير أنَّ إيمانها هذا – وهذا اعتراضي الوحيد – لن يوفر لابنها الحبيب إلى قلبها دجاجة يأكلها.

فالدجاجة إن كانت "رؤية" أم "رؤيا" هي في جميع الحالات من حصة الشيخ.
4.
العلم والتفكير النقدي، يا قارئي، يُفسد الدين ويخرِّب العقيدة. ولهذا سميته "شططاً"!
فالطريق إلى الإيمان هو طريق "الوعي" الساذج بالوجود. ولا ينبغي أن يبخس المرء حق قدر السذاجة ويفترض أنها من طبيعة الأمية والجهل.
السذاجة الدينية هي طبيعة قارَّة كامنةٌ في الإيمان. بل أن الإيمان والسذاجة في وحدة لا يمكن أن تفصم عراها. فإن فصلت السذاجة عن الإيمان فإن الإيمان بحد ذاته يكف عن الوجود.
ولهذا فإنَّ لا فرق ما بين الجاهل و"حامل" الدكتوراه عندما يتعلق الأمر بالعقيدة الدينية.
وهذا هو داء الإيمان الديني:
يُصاب جميع المؤمنين/المسلمين بالوعي المزيف. إذ لا مناعة لأحد. فالجميع "كأسنان المشط" من بائع السمك الذي ترك المدرسة قبل انتهاء الفصل الدراسي الأول ولم يعد إليها قطُّ إلى "الأستاذ!" الجامعي الذي يخرَّج طلبة لا يختلفون عن بائع السمك!
بل – وهذه هي المفارقة – كلما "تَدَّرَّج" المسلم في المراتب الأكاديمية كلما ازداد تمرداً على الوعي العلمي؛ وكلما انحدر في مستنقع الأوهام أكثر فأكثر.

كتاب الحيوان الصغير [1]: الإنسان

[الصورة: إعادة بناء لرأس إنسان النياندرتال على أساس إحدى الجماجم التي تم العثور عليها]


1.
من الخطل الكبير ألا أبدأ هذه السلسلة: "كتاب الحيوان الصغير" بالإنسان. وإن حدث هذا فإنه[قد] يلومني عليه حتى الحمير - بالمعنى الحرفي للكلمة!
2.
الإنسان بحكم التعريف "حيوان" – سواء كان مفكراً وعاقلاً "Homo sapiens"؛
أمْ منتصباً "Homo erectus"؛
أم ماهراً – يجيد صناعة الأشياء"Homo habilis"؛
أمْ حيواناً ناطقاً؛
أمْ اجتماعياً،
فإنه يظل بحكم التعريف "حيواناً".
بل هو حيوان قُحٌّ وحَقٌّ وحقيقةٌ حتى لو نطق ما تيسر له (من أيِّ كلام كان ومن أي مكان وزمان) أو تكلم بطلاقة السياسيين وجعجعة المُضْحِكِين ولعثمة المغفلين أو كَتَبَ عن الأوهام ورتَّب بضع كلمات مربكة مهلهلة، أو سَطَّر آلاف الصفحات – مسروقة كانت من هنا أم من هناك، وسواء تقمص شخصية المنقذ أمْ كانَ محض سلعة من صناعة السلطان.
إذ أنَّ الكلام لا يشفع له أمام الطبيعة الحقة باعتباره حيواناً؛
كما أنَّ لا ربطة العنق والعمامة المغبرة المتعرقة، ولا الملابس الأنيقة أو الأسمال البالية توفر له أو عليه طبيعته القارَّة كونه كائناً ينتمي إلى فصيلة من فصائل مملكة الحيوان.
3.
وفي وسع المرء أنْ يواصل:
سواء كانَ نبياً أم سائق حنطور سكيراً، وسواء كان عالماً فيزيائياً أمْ شيخاً جاهلاً في أحد الجوامع السنية الريفية أو إحدى الحسينيات الشيعية الرثة فإنَّ الأمر سواء:
هو بحكم التعريف: حيوان.

[Australopithecus africanus وهي مجموعة الهومينيد الأحفوري من جنوب إفريقيا]

وسيظل من المهد إلى اللحد حيواناً مهما تكلم أو تفنن بحياكة الأكاذيب وصناعة المؤامرات، ومهما اتقن أساليب الخداع والتضليل، ومهما ادَّعَى أنَّه (...) أو لمْ يّدَّع أنه (...)، ومهما حلف بكل الكتب والمجلات والصحف الدورية – بل حتى لو حلف أغلظ الإيمان بـ"الكاما سوترا" "وبلاي بوي" و"التوراة" و"الإنجيل" و"القريان" وجميع الكتب الصفراء والحمراء والملونة بأنَّه إنسان ويمتلك بطاقة شخصية (الحق أن البطاقة الشخصية من أسوء الأدلة على أنَّ حاملها هو إنسان، لأنَّ الحيوانات البيتية في أوربا لها بطاقات شخصية وجوازات سفر) ...
سيبقى ما بقي الكُونُ قائماً حيواناً. . .
5.
فإذا اتضح هذا الأمر إلى حد الجزع والغثيان (وربما التثاؤب!) فإنه حينئذ وحينئذ فقط يمكن أن يُطرح هذا السؤال:
ولكن أليس ثمة منفذ للخلاص من هذا القدر اللعين؟
التاريخ الحقيقي للبشرية (وليس التاريخ الديني أو الكتب المدرسية التي يكتبها مغفلون) منحنا الجواب ممزوجاً بسلسلة من الآلام والمآسي البشرية والجرائم المتوحشة على حد سواء:
للإنسان فرصة واحدة وحيدة لا غير؛
شرط لا يمكن عبوره مهما تعددت الشروط، في أن يكونَ "إنساناً" وإنْ فرَّط بهذه الفرصة وذلك الشرط فإنَّ لا وجود لقوة يمكن أنْ تنقذه من مملكة التوحش:
أنْ يمتلك ضميراً وشعوراً بالذنب إنْ اقترف جرماً!
6.
هذا أمر لا يمكن المساومة عليه أو تعويضه ولا يقبل اللف والدوران حوله:
أنْ يكونَ "الإنسان" إنساناً فإنَّ هذا لا يعني غير شيء واحد:

أنْ يشعر بتأنيب الضمير متى ما أخطأ، ومتى ما ارتكب فعلاً لا ينبغي القيام به – بل هو يكف عن كونه إنساناً حتى في اللحظة التي يقترف فيها فعلاً مناقضاً لما يدعي به مع نفسه وأمام نفسه – بوجود أو بغياب المرآة. فإمكانيات خداع الناس لا تجعل من المُخادِع إنساناً، بل مجرد مخادِع رث. وهو لا يختلف عن أي ثعلب لا يعرف القراءة والكتابة (ولي عن الثعلب كلام منفصل) لكنه مع ذلك قادر على أنْ يسرق الدجاج مِنْ بيت أشرس المزارعين!
7.
فمهما اتصف الحيوان عن حق أو من غير حق بجميع الصفات البشرية الممكنة (أو أنْ يمنحها له البشر مجاناً!) كالذكاء والخداع والتكتيك والتستر والقدرة على التخفي والاختفاء والقوة والصبر والسرعة والتحمل وغيرها من الصفات فإنه لا يعرف تأنيب الضمير!
ولهذا فهو حيوان؛
إنه لا يعرف الشعور بالذنب ولا يَحُقُّ لأحد أن يطالبه بذلك.
فالحيوان بحكم التعريف غير مؤهل أن يكون مسؤولاً عن أعماله وعما يقترف من أفعال ولا يمكن تطبيق القوانين الجنائية الوضعية عليه.
ولهذا السبب أيضاً فإنَّ صاحب الكلب المسعور هو الذي ينبغي أن يتحمل تبعات ما يقوم به كلبه أمام القانون وليس الكلب نفسه. فالكلب المسعور "حيوان" ولا يشعر بالذنب ولا بتأنيب الضمير إنْ هجم على طفل رضيع أو شيخ عاجز عن الدفاع عن نفسه.
8.
إن "الشعور بالذنب" و"تأنيب الضمير" هما الحَاكِمُ والعَلَامَة الفَارِقَة على الحدود الفاصلة ما بين ثقافة التوحش والحضارة:


[إعادة بناء لرأس هومو ناليدي – Homo naledi من قبل عالم الحفريات جون غورشي]

لا يمكن اختراق هذه الحدود لا بالإرادة ولا بالرغائب.
فقوانين الطبيعة قد قالت كلمتها و "رُفعت الأقلامُ وَجَفَّت الصحف" كما قال أحدهم!
إنَّك لا تملك إلا نفسك وحكم التصرف بها.
وإن سعيت إلى امتلاك الغير أو السعي إلى إخضاعهم من غير أن تشعر بأنك قد اقترفت جريمة فأنت لا تزال في طور الحيوان – أياً كان هذا الطور؛
وإنْ سعيت إلى إعلاء خرافة العنصر النقي أو "خير أمة أخرجت للناس" وتفننت في تضيق العيش والتنفس على الآخرين، واخترعت أكثر أدوات الإرهاب تخلفاً أو تطوراً (والأمر سواء) من غرف الغاز الهتلرية إلى احتفالات الذبح والمجازر في الدولة الإسلامية؛ بل حتى لو بررت المجازر والقوانين المتخلفة وسعيت إلى تطبيقها أو رحبت بها أو سكتَّ على وجودها أو دَلَّسْتَ على حقائق حدوثها:
فأنت لا تزال في طور الحيوان – أياً كان هذا الطور.
فهذه هي ثقافة التوحش.
والتوحش من خصال مملكة الحيوان ولا علاقة لها بالإنسان.
9.
أنْ تشعر بأنَّ لك الحق في أنْ تؤمن بالخرافات والأساطير وتجعل منها نبراساً يضيء دربك وأنْ تقوم بتخريب وجودك المؤقت الوحيد وإضاعته بطقوس السخف وعقائد الوهم – فهذا حقك وهو أمر يمنحك إياه القانون ولا اعتراض عليه؛
أنْ تؤمن بأنَّ لك رباً هو "أفضل" الأرباب – سواء كان اسمه "الله" أو "إبريق الشاي الطائر" أو "الفيل الأبيض ذو الجناحين" أو "البطاطا المسلوقة"؛ وأن تعتقد بأن عقيدتك هي أنقى العقائد في الكون وأيديولوجيتك هي قمة العلم– فلتفرح بها ما شئت من الفرح فإنَّ هذا شأنك أنت وحدك؛
وإنْ آمنت بالشياطين والجن والملائكة والسعالي والعفاريت والغيلان وأم السلفوطي وعيشة فنديشة والطَنْطَل والندَّاهة وأم الدويس ويأجوج وماجوج وغيرها من الكائنات التي لم ترها عين مخلوق ولم تخطر على بال أحد فهذه مشكلتك؛
ولكنْ أن تشعر بهدوء وراحة بال بأنْ لك الحق في مطالبة الآخرين بأنْ يؤمنوا بذات الخرافات والأساطير، بل وتقوم بفرض هذا الأمر عليهم باستخدام سلطة دولة متخلفة هي خارج التاريخ فإنَّ لك عندي خبراً قد يسعدك:
أنتّ لا تزال في طور التوحش!
10.
كُنْ ما شئت أنْ تكون!
ولكن لا يمكنك أن تجمع في جسد زائل واحد - سوف يتعفن آجلاً أم عاجلاً ويتحول إلى غذاء للدود:
غياب الشعور بالذنب والإنسان.
هذا هو درس الحضارة – أدركته أم رفضت إدراكه!



ليس للموضوع بقية . . .




أحدث المقالات:

كتاب: حكاية الحمار العجيبة الذي قرر أن يكون مؤذناً!

المواضيع الأكثر قراءة:

◄ أربعة مقالات حول: خرافة "الرحمة" في الإسلام!

هل كان آينشتاين مؤمناً؟

مقالات عن الشيعة: اساطير التاريخ وأوهام الحاضر