منع

لِمَ اختار الوحشُ الوجهَ الإسلاميَّ بالذّات لا وجهاً آخر ؟

عبد النور بيدار:
مفكر فرنسي مسلم، أستاذ فلسفة بجامعة صوفيا أنتيبوليس في نيس بفرنسا، له عدّة كتب أهمّها «نحو إسلام يليق بعصرنا» (2004). «إسلام ذاتي: حكاية إسلام شخصي» (2006) «إسلام بلا خضوع: نحو فلسفة وجودية إسلامية» (2008) «انحسار الدين في الغرب: راهنيّة محمّد إقبال» (2010). «كيف الخروج من التدين التقليدي؟»(2012). كما نشر عشرات المقالات في مجلّة (Esprit) ويوميّة “لوموند” (Le Monde)، وهو منتج ومعدّ برنامج “فرنسا الإسلام: أسئلة متقاطعة” على إحدى القنوات التلفزيّة الفرنسيّة.
1.
قراءة في "رسالة مفتوحة إلى العالم الإسلامي"
في " رسالة مفتوحة إلى العالم الإسلامي" يصرح المفكر المسلم (وليس الملحد) عبد النور بيدار عما لم يصرح به الكثير من الكتاب الأوربيين الذين يصعب عليهم رؤية التأثير الكارثي للإسلام كدين.
تكتسب فكرة الصورة الوحشية للإسلام مركز تصورات عبد النور بيدار في هذه "الرسالة المفتوحة"، لكنها في نفس الوقت هي الصورة الموضوعية التي لا بديل لها لكل من يراقب مظاهر الإسلام بحيادية في هذا الزمن الذي نعيشه فيه. فهي صورة لم تخلقها إلا الوقائع ولا شيء آخر.
إنَّ الدولة الإسلامية (وداعش صورتها الراهنة) قد تخطت، مثلما خرقت، الخطوط الحمراء حتى لأعتى الحروب الهمجية في التاريخ في الحاضر والماضي.
إنها عودة إلى عصور التوحش غير أنها قد انطلقت من صلب الإسلام.
ينطلق الكاتب من تساؤل يمتلك كامل المشروعية:
ما تُراك تقول في الواقع في مواجهة هذا الوحش؟ ما هو خطابك الوحيد؟
وكالعادة فإن الإسلام الرسمي "يشهر" سلاح الدفاع المطلق:
هذا ليس أنا!”، “هذا ليس الإسلام!”. أنت ترفض أن تُرتكب جرائم هذا الوحش باسمك، وتسخط على نفسك أمام هذه الفظاعة، وتثور على اغتصاب الوحش هويّتك، وأنت لعمري محقّ في ذلك. لذا، فلا مندوحة من أن تُعلن في وجه العالم عالياً وبقوّة أنّ الإسلام يرفض الهمجيّة. لكنّ ذلك غير كافٍ البتّة! ذلك أنّك تلوذ بآليّة الدفاع عن النفس دون أن تتحمّل، بصفة خاصّة، مسؤوليّة النقد الذاتي. إنّك تكتفي بالسخط، في حين كان يمكن لهذه اللحظة التاريخيّة أن تكون فرصة عظيمة لمساءلة نفسك! وكالعادة، أنت تتّهم بدلاً من أن تتحمّل مسؤوليّتك: “توقّفوا، أيّها الغربيّون، ويا أعداء الإسلام جميعاً عن ربطنا بهذا الوحش! الإرهاب لا يمثّل الإسلام، فالإسلام الحقّ لا يعني الحرب، بل يعني السلم!”.
2.
ومع ذلك يبقى "السؤال الكبير" الذي يصر عليه عبد النور بيدار:
"لماذا سرق هذا الوحش وجهك؟ لم اختار هذا الوحش الحقير وجهك بالذّات لا وجهاً آخر؟ لِمَ لبس قناع الإسلام دوناً عن غيره؟ ذلك أنّ صورة الوحش هذه تُخفي في الواقع مشكلة كبيرة، لا يبدو أنّك مستعدّ لمواجهتها. ومع ذلك يجب عليك مواجهتها، ويجب أن تمتلك الشجاعة على ذلك".
إن "المشكلة الكبيرة" التي يسعى الإسلاميون إلى إخفائها وطالما تستروا عليها محررين آلاف الكتب هي:
"مشكلة جذور الشرّ. من أين تنبع جرائم ما يسمّى “الدولة الإسلاميّة”؟ سأجيبك يا صديقي، ولن يسرّك ذلك، ولكن واجبي كفيلسوف يقتضي إجابتك. إنّ جذور هذا الشرّ الذي يسرق وجهك اليوم تكمن فيك، فالوحش خرج من رحمك، والسرطان يسكن جسمك ذاته. ومن رحمك المريضة ستخرج في المستقبل وحوش جديدة – أسوأ منه بكثير – ما دمت ترفض مواجهة هذه الحقيقة، وطالما تباطأت في الاعتراف بها ولم تعزم على اقتلاع هذا الشرّ من جذوره!"
3.
هذه هي الحقيقة المُرَّة التي عجز ويعجز المسلمون عن مواجهتها. فـ"جذور الشر" لم تكن مستوردة من خارج الإسلام – بل هي ليست حتى من خارج كتاب محمد.
لقد بقي الإسلام خارج التاريخ ولهذا فإنه بقي خارج التطور الإنساني. وإن الطبيعة الروحية، يقول عبد النور بيدار، تخشى الفراغ "وما لم تجد شيئاً جديداً لملئه، فإنها ستملؤه غداً بأديان يزداد عدم تكيّفها اليوم – لتنتج، كما يفعل الإسلام الآن، وحوشاً".
وإن رفض الإسلام عقيدة وسلوكاً لآليات التطور هو ما يفسر "ولادة الوحوش الإرهابيّة تحت أسماء “تنظيم القاعدة”، و” النصرة”، و” القاعدة في بلاد المغرب الإسلامي” و” الدولة الإسلاميّة”.
ولم يكن ظهور تنظيمات التوحش إلا نتيجة طبيعية وهي ليست أمراً طارئاً بل هي في رأي عبد النور بيدار:
" سوى الأعراض الأخطر والأكثر وضوحاً على جسم ضخم مريض تتمثّل أمراضه المزمنة في : العجز عن إقامة ديمقراطيّات دائمة تؤمن بحريّة الضمير تجاه عقائد الدين كحقّ أخلاقي وسياسي؛ العجز عن الخروج من السجن الأخلاقي والاجتماعي لدين متحجّر، جامد، وأحياناً شمولي؛ صعوبات مزمنة في تحسين وضع المرأة باتّجاه المساواة والمسؤوليّة والحرّية؛ عدم القدرة على فصل كافٍ للسّلطة السياسيّة عن هيمنة سلطة الدين عليها؛ العجز عن تأسيس احترام وتسامح واعتراف حقيقي بالتعدديّة الدينيّة والأقليّات الدينيّة".


4.
إنَّ الإسلام لم يرفض إدراك أزمته البنيوية فقط، بل يسعى بجهود مثيرة للاستغراب إلى إيجاد "سبب خارجي" لأزمته - كالعادة وفي زمن الأزمات يستل المسلمون من مشجب الأعداء: الغرب!
"هل يكون هذا كلّه نتيجة خطأ من الغرب؟ كم من وقت ثمين، ومن سنوات حاسمة، سوف تخسر أيّها العالم الإسلامي العزيز، بهذا الاتّهام الغبيّ الذي لا تؤمن به أنت ذاتك، والذي تختبئ وراءه كي تواصل الكذب على نفسك؟ إذا كنتُ أنتقدك بكلّ هذه القسوة، فليس لأنّني فيلسوف “غربي”، بل لأنّني واحد من أبنائك الواعين بكلّ ما فقدته من عظمتك التي طواها الزمن إلى درجة أنها أضحت مجرّد أسطورة!".
5.
لم يتمسك “الإسلام" بالماضي فقط، بل استحال هو إلى ماضي وسد جميع الأبواب والنوافذ المطلة على المستقبل. لقد كان العصور الحديثة فرصة ذهبية للانفتاح على العالم وبناء تصورات جديدة عن العالم. لكنه بدلاً من ذلك ينكفئ "بطريقة طفوليّة وقاتلة في الماضويّة من خلال التقهقر الوهابي المتعصّب والظلامي الذي ما يزال يعيث فساداً في كلّ مكان تقريباً داخل حدودك – وهي وهابيّة تنشرها انطلاقاً من أماكنك المقدّسة في المملكة العربيّة السعوديّة كسرطان ينطلق من قلبك ذاته! ".


"ماذا تبقّى فيك ممّا يستحقّ احترام شعوب وحضارات الأرض الأخرى وإعجابها؟ أين حكماؤك، وهل ما زال لديك من حكمة تقدّمها للعالم؟ أين رجالك العظام، أشباه “مانديلا” و”غاندي” و”أونغ سان سو كيي” فيك؟ أين هم كبار مفكّريك ومثقّفيك الذين ينبغي قراءة أعمالهم في جميع العالم كما كان الأمر زمن كان علماء الرياضيّات والفلاسفة العرب والفرس أساتذة العالم من الهند إلى إسبانيا؟ الحقيقة أنّك أصبحت في الدرك الأسفل من الضعف والعجز وأنت تتخفّى وراء اليقين الذي تعلنه حول نفسك… لم تعد تعرف بتاتاً من أنت ولا أين تريد أن تذهب، وهذا يجعلك شقيّاً بقدر ما أنت عدواني… أنت تصمّ أذنيك عن الاستماع إلى أولئك الذين يدعونك إلى أن تتغيّر لكي تتخلّص من الهيمنة التي أعطيتها للدّين على الحياة بأكملها. لقد اخترت الاعتقاد بأنّ محمّداً كان نبيّاً وملكاً. لقد اخترت تعريف الإسلام بوصفه ديناً سياسيّاً وأخلاقيّاً واجتماعيّاً، يجب أن يسود كطاغية على الدولة كما على الحياة المدنية، وفي الشارع وفي المنزل كما داخل كلّ وعي. اخترت الاعتقاد وفرض أنّ الإسلام يعني الاستسلام".
6.
يؤكد عبد النور بيدار بأنه ثمة العديد من الأصوات التي يرفض الإسلام سماعها وهي "ترتفع اليوم داخل الأمّة داعية إلى التمرّد على هذا الخزي، وإدانة هذا المحرّم الديني السلطوي الذي لا يرقى إليه الشكّ والذي يستخدمه قادتها لإدامة حكمهم إلى أبد الآبدين… حدّ أنّ الكثير من المؤمنين استبطنوا ثقافة الخضوع للتّقاليد ولـ”سادة الدين” (من أئمّة ومفتين وشيوخ، الخ) إلى درجة أنّهم باتوا لا يفهمون أنّنا إنّما نحدّثهم عن الحرّية الروحيّة، ولا يقبلون حتّى جرأتنا على الحديث حول الاختيار الشخصي مقابل “أركان” الإسلام. هذا كلّه “خطّ أحمر” في نظرهم، شيء مقدّس إلى درجة لا يتجرّؤون معها على إعطاء ضمائرهم حقّ التساؤل بشأنه! وكم هناك من عائلات، ومن مجتمعات إسلاميّة ينغرس فيها الخلط بين الروحانيّة والعبوديّة في أذهان الناس منذ سنّ مبكّرة، ويكون التعليم الروحي فيها من الضحالة بحيث يظلّ كلّ ما يرتبط من قريب أو من بعيد بالدّين أمراً لا يمكن مناقشته!
ولكن هذا حصيلة للإرهاب وجماعات متعصبي الدولة الإسلامية؟
الجواب:
". لا، المشكلة هنا أعمق من ذلك بكثير وأشمل! لكن من سيراها؟ ومن سيتحدّث عنها؟ ومن يبغي سماعها؟ إنّ الصمت يلفّها في العالم الإسلامي، ولم نعد نسمع في وسائل الإعلام الغربيّة سوى خبراء الإرهاب الذين يفاقمون يوماً بعد آخر قصر النظر المعمّم! لذا، لا يجب أن تنخدع، يا صديقي، بأنّ مجرّد اعتقادك والإيهام بأنّه ما إن يتمّ الحسم مع الإرهاب الإسلاموي حتّى يكون الإسلام قد حلّ مشاكله! ذلك أنّ جميع ما ذكرته للتوّ – دين رجعي، متحجّر، حرفي، شكلاني، ذكوري، محافظ، منكفئ – هو في كثير من الأحيان، وليس دائماً، الإسلام العادي، أي الإسلام اليومي الذي يتألّم ويؤلم الكثير من الضمائر، إسلام التقليد والماضي، الإسلام المشوّه من قبل جميع الذين يستخدمونه سياسيّاً، الإسلام الذي يخنق وسيخنق دوماً كلّ ربيع عربي ويئد صوت جميع الشباب المطالبين بشيء آخر. فمتى ستقوم بثورتك الحقيقيّة؟ تلك الثورة التي سوف تُطابق نهائيّاً في المجتمعات وفي الضمائر بين الدين والحرّية، تلك الثورة التي لا رجعة عنها والتي ستعترف بأنّ الدين أضحى مجرّد واقعة اجتماعيّة ضمن بقيّة الوقائع الاجتماعيّة في جميع أنحاء العالم، وبأنّه لم يعد لتكاليفه الباهظة أيّ شرعيّة!"
يرى عبد النور بيدار بأنّ الحرمان من الحقّ في الحرّية في مواجهة الدين هو أحد جذور الشرّ التي يعاني منها "العالم الإسلامي". إنها:
"واحدة من تلك الأرحام المظلمة التي تنمو فيها الوحوش التي تقذف بها منذ بضع سنوات في وجه العالم المرتعب. ذلك أنّ هذا الدين الحديدي يفرض على مجتمعاتك بأكملها عنفاً لا يطاق. إنّه ما يزال يحبس كثيراً من بناتك وجميع أبناءك في سجن الخير والشرّ، الحلال والحرام، وهو سجن لا أحد يختاره، ولكن الجميع يخضع له. إنّه يسجن الإرادات، ويكيّف العقول، ويمنع أو يعيق كلّ اختيار لحياة شخصيّة. وفي كثير من أصقاعك، ما زلت تقرن بين الدين والعنف – ضدّ النساء، وضدّ “قليلي الإيمان”، وضدّ المسيحيّين وغيرهم من الأقلّيات، وضدّ المفكّرين والعقول الحرّة، وضدّ المتمرّدين – بحيث يمتزج الدين والعنف في نهاية المطاف عند أكثر أبنائك لا توازناً وأكثرهم هشاشة في الجهاد المسخ!"
وفي الختام يقول عبد النور بيدار مخاطباً "العالم الإسلامي):
"لا تندهش إذن، ولا تتظاهر بالاندهاش، أرجوك، من أنّ بعض الشياطين على غرار ما يسمّى الدولة الإسلاميّة قد سرقوا وجهك! فالوحوش والشياطين لا تسرق إلاّ الوجوه المشوّهة بفعل ما عراها طويلاً من عبوس! وإذا كنت تريد أن تعرف كيف لا تنجب مستقبلاً مثل هذه الوحوش، فسأقول لك إنّ الأمر بسيط وصعب في نفس الوقت. لا بدّ أن تبدأ بإصلاح التعليم الذي تعطيه أطفالك برمّته، أن تصلح كلّ مدرسة من مدارسك، وجميع أمكنة المعرفة والسلطة. أن تصلحها من أجل إدارتها حسب مبادئ كونيّة (حتى ولو لم تكن أنت الوحيد الذي يخرقها أو يستمرّ في تجاهلها): حرّية الضمير، والديمقراطيّة، والتسامح، وحقوق المواطنة لجميع تنوّعات رؤى العالم والمعتقدات، والمساواة بين الجنسين وتحرير المرأة من كلّ وصاية ذكوريّة، والتفكير وثقافة النقد الديني في الجامعات، والأدب، والإعلام. لن يمكنك أبداً الرجوع إلى الوراء، ولن يمكنك أبداً أن تفعل أقلّ من ذلك! لن يمكنك أبداً أقلّ من أن تُنجز ثورتك الروحيّة في أكمل صورها! هذه وسيلتك الوحيدة كي لا تُنجب مثل هذه الوحوش، وإن لم تفعل ذلك فإنّ قوّتها التدميريّة ستكتسحك قريباً".
7.
هذا هو الباب المفتوح أمام انهيار الإسلام من الداخل: القيام بـ"ثورة روحية" بدلاً من "اللجوء مراراً وتكراراً إلى سوء النيّة والعمى المتعمّد".
هكذا يختم عبد النور بيدار – المفكر المسلم تصوراته عن وجه الوحش الذي يستحوذ على الإسلام والطريق إلى التخلص من إنجاب الوحوش.

ملحق: 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

كتاب: حكاية الحمار العجيبة الذي قرر أن يكون مؤذناً!

المواضيع الأكثر قراءة:

◄ أربعة مقالات حول: خرافة "الرحمة" في الإسلام!

هل كان آينشتاين مؤمناً؟

مقالات عن الشيعة: اساطير التاريخ وأوهام الحاضر