منع

‏إظهار الرسائل ذات التسميات تجارب شخصية. إظهار كافة الرسائل
‏إظهار الرسائل ذات التسميات تجارب شخصية. إظهار كافة الرسائل

هذا هو الدليل على وجود الخالق: جولة صباحية



1.
منذ حوالي ثلاثين دقيقة (07:30 am) عدة من جولة الصباح في الغابة القريبة من بيتي.
كنت خلال التسعين دقيقة الماضية في حضرة مجموعة من الأعمال الموسيقية الألمانية والنمساوية.
بدأت جولتي في دروب الغابة الصغيرة بـ " Overtures and preludes " لريتشارد فاغنر [آمل أن تستمعوا إليها فالعنوان يتضمن الرابط].
كان الطقس بارداً بعض الشيء في مثل هذا الوقت من الصباح وثمة رياح خفيفة تهز الأشجار هنا وهناك. لكنني لم أكن أشعر بالبرد ولم أكن أسمع ما يدور حولي.
بين فترة وأخرى وفي بعض المناطق العالية من الغابة كنت أسمع خرير النهر القريب، سرعان ما ابتعدت قليلاً في الطريق الملتوي الضيق نحو اليمين فيبتعد صوت النهر وأبقى وحيداً مع فاغنر...

2.
عندما وصلت النقطة الأخيرة من جولتي وكعصفور يحط على أحد أغصان الأشجار العالية راودتني فكرة الدليل على وجود الخالق!
فجأة قفز من أمامي سنجاب صغير ثم تسلق الشجرة برشاقة مختفياً في مكان ما بعيداً في أعلى الشجرة.
ذكرني السنجاب بالمسلمين!
جميع مَنْ على الأرض أعداء لهم. السنجاب لا يميز ما بين المارين المُسَالِمِين، وأنا واحد منهم – أو هكذا أعتقد، والمؤهلين للإضرار به. إنه يهرب من أي شبح بعيد لشخص قادم. ثمة خصلة سنجابية أخرى لها صدى في الإسلام: السنجاب يقضي عمره في جمع الثمار للشتاء مخفياً إياها في الأرض. لكنه عادة ما ينسى مواقع الكثير من هذه الثمار المدفونة – فالمسلمون يجمعون (هل هي للشتاء؟) ما لا يعد ولا يحصى من الخرافات والأساطير المتناقضة عن محمد بن عبد الله وقريانه وسيرته، غير أنهم (وهذه هي الخصلة السنجابية) ينسون أنهم قد دونوها. ومثلما تتعفن الثمار السنجابية المدفونة في الأرض وتتلف، فإنَّ تناقضات أساطيرهم وخرافاتهم تستحيل عالة عليهم وعلى وجودهم.
3.
قطع السنجاب الصغير فكرتي لكن الصوت المتعالي في رأسي من موسيقى فاغنر أعادني من جديد إلى فكرة الخالق.
إذا كنتم تستمعون الآن إلى ما استمعت إليه خلال نزهتي فإن فكرة الخالق ستبدو لكم واقعية وأرضية:
ها هو صوت "الخلق" يتعالى وليس ثمة حاجة إلى البراهين.
فهل ثمة شك في ذلك؟
هل علينا أن نعيد في أذهاننا هراء البراهين العقلية الأنطولوجية أو برهان الصديقين؟!
ها هو الخالق يقف بيناً وراء موسيقاه....
4.
موسيقى فاغنر عنيفة، متوترة، تتغلغل إلى العقل موقظة فيه رؤى قد لا يتوقعها المرء، إنها تتدفق وتتعالي بقوة شلالات الماء العالية، أو كأن إعصاراً يهب.
حتى عندما تبدو وكأنَّ نوعاً من السكينة قد حلت فإنه من السهل سماع العاصفة مسبقاً.
هل تتذكرون موسيقى هجوم طائرات الهليكوبتر على القرية الفيتنامية في فيلم "القيامة الآن - Apocalypse Now"؟
إنها مقطوعة لفاغنر تحت اسمه "ركوب الفالكيري ". إن القوة التصويرية للمقطوعة والممتزجة بصوت طائرات الهليكوبتر العدائي والمرعب يعكس ببراعة عالية فظاعة الحرب والقوة الغاشمة.
5
الدانوب الأزرق: ﭬالس



في طريق العودة إلى البيت كنت في حضرة يوهان شتراوس و:" The Blue Danube ".
مررت بالنهر الصغير من جديد.
وعندما أزلت السماعتين تعالى من جديد صوت تدفق الماء بهدوء. فهو يمر هنا بمنطقة منبسطة من غير أن تعيق حركته صخور أو جذوع الأشجار الساقطة.
لا علاقة لهذا النهر بـ " The Blue Danube ". كانت محض مصادفة أن تبدأ موسيقى شتراوس عند اقترابي من الطريق المحاذي للنهر.
الآن لو يستمع أحدكم إلى المقطوعة فسوق يتفق معي أننا في حضر إله مختلف ومغاير!
إلهنا الجديد النمساوي رائق المزاج، لعوب، مرح، يتدفق حياة وحيوية.
الخالق الجديد – شتراوس، يعشق الرقص، خلافاً لرب المسلمين الذي "يفترض" أنه يستوي على عرش ما و"يفترض" أنه يراقب البشر ويسجل ذنوبهم مكشراً عن أسنانه المتسوسة!
لي صديق تشيلي (لم يعد بيننا الآن!) كان يرى بأن الناس نوعان – مهما اختلفوا دينياً وأثنيا وثقافياً وسياسياً، وسواء شاءوا أم أبوا: هم نوعان لا ثالث لهما:
نوع يبحث عن السعادة؛ ونوع حوَّل التعاسة إلى نمط حياة وأسلوب عيش!
والمسلمون من النوع الثاني من الناس.
فهل سيعشقون شتراوس؟
5.
ها أنا في البيت...
أشم رائحة القهوة من المطبخ. ..
إنها تتصاعد (أو ربما تتعالى) وكأنها موسيقى. الحق أنها أقرب إلى شتراوس من فاغنر...
وبعد أن أخذت دوشاً حاراً ولم أغتسل على طريقة الوضوء كما تغسل القطة وجهها بلعابها تكون "صَلَاتِي" الصباحية قد انتهت وعليَّ أن أبدأ العمل ...
يا للحياة الكئيبة، سيقول المجاهدون الذين آمنوا بعالم لا وجود له وبخرافات صنعوها بأنفسهم في قيظ الصحراء!
ماذا أفعل؟
هذه هي الحياة . . .



البدايات (من تاريخ إلحادي) [4]: الخلاصة: موت "الله"

طير يتحرر من بئر
[الحرية المُبَكِّرة من مملكة الظلام]

1.
لقد تعقدت الأمور في السنتين الأخيريتين من مرحلة الإعدادية وازداد حجم التحديات. 
فقد شهدت هذه المرحلة تطور قراءاتي كماً ونوعاً من جهة، والمحيط المدرسي والاجتماعي أخذا يطرحان يومياً الكثير من الأسئلة – كانت نسبةٌ ليست ضئيلة منها تفرض عليَّ الإجابة. 
إنَّ "المصيدة" قد توسعت والأخطار تفاقمت.
2.
هل الله موجود؟
كان هذا هو السؤال الذي لم ينقطع صداه!
"هل الله موجود"؟ 
إنها مرحلة معقدة من حياتي الروحية واختياراتي العقائدية. فالأسئلة أخذت تزداد والأجوبة تتناقص. حتى تلك اللحظة كان الأمر يتعلق برفض الطقوس وعدم القناعة بمنطقية الواجبات الدينية. الآن قد اختلف الأمر جذرياً. فالسؤال لا يتعلق بجدوى الدين وإنما بوجود الله.
3.
الآن أدركُ فكرة "الإبصار" بصورة مختلفة تماماً. 
المتدينون يلفقون عشرات الأجوبة ضد فكرة "رؤية الله" ويستغلون حرفية اللفظ معترضين على من يريد رؤية الله رؤية عيانية. ولكن من تجربتي الشخصية ومن احتكاكي بالكثير من الشباب آنذاك والآن فأن فكرة الرؤية والإبصار لا علاقة لها برؤية العين كدليل على وجود "الله". الأمر يتعلق "برؤية" الأدلة. أما وجود الكون كدليل على وجود الله فهو من أسخف الأدلة الممكنة. فهل وجود البول والخراء دليل على وجود الله؟
4.
لقد استطعت أن أطلع على فكرة نيتشة بموت "الإله". لكن صرخة نيتشة بموت الإله لم تكن تكفي للإجابة على أسئلتي. فالناس حولي لا تكف عن ترديد اسمه وتبجيل صفاته؛ 
إنه يعيش بينهم رغم غيابه؛ 
ويشغل ما تبقى من عقولهم به رغم أنه لم "يبصره" أحد منهم!
- هل مات حقا؟
إن موت الله بدت لي قضية فاسدة جداً. فهذا يعني أنه كان حياً. وهذا مأزق جديد لا يمكن تذليله.
كيف يموت من لا وجود له؟
هل أبحث عن موته أم عن غياب وجوده من حيث المبدأ؟
كانت أسئلتي معقدة وأدواتي للبحث عن الأجوبة ما تزال في بداية تشكلها.
5.
بعد بحث وتفكير مضنين وقراءة مكثفة، في الفلسفة خصوصاً، انتهيت إلى أولى الخلاصات المدهشة:
سواء كان الله موجوداً أم لا، إن كان حياً أو ميتاً، فما هو قيمة وجوده أو غيابه في حياتي؟
لقد كان هذا [ولا يزال بالنسبة لي] مفتاح المفاتيح [masterkey] لكل الأسئلة المتعلقة بالدين. بل أن هذا السؤال بمثابة الطريق المُعَبَّد والذي لا محالة يؤدي إلى الإجابات الحقيقة.
ما الجدوى من وجود وعدم وجود الله؟
هذا هو السؤال!
6.
من هنا بدأ هوسي في مراقبة الناس: 
كنت أبحث عن "الله" في حياتهم وأثره عليهم.
كنت أراقب الأغنياء والفقراء، المتعلمين والأميين، أصحاب السُلطة والضعفاء، السعداء والتعساء. لكنني لم أجد أية علاقة ما بين كل هذه الحالات والأوضاع الاجتماعية وقضية الدين. بل وجدت بصورة صارخة أن الأشخاص كلما كانوا بعيدين عن التقاليد الدينية كانوا يحيون حياة طبيعية وغالباً ما كانوا يتمتعون بأوضاع معاشية أفضل من المتدينين. أما ما يتعلق بالأشخاص الأغنياء (الذين أعرفهم) والذين يبدو عليهم "التدين" فقد اكتشفت أن الدين بالنسبة لهم جزء من الشروط الاجتماعية ولا شيء آخر. لم يكونوا ملحدين، لكنهم كانوا أقرب إلى العلمانيين منه إلى المتدينين. إذ أن عملهم التجاري واحتكاكهم بتجار متدينين جعلهم "يلبسون" مظاهراً دينية شكلية حتى لا يحتاجون إلى الشرح والتأويل بصدد عدم تدينهم.
7.
كان القاسم المشترك "الخارجي" ما بين هؤلاء الأشخاص هو رفضهم للكثير من العادات والتقاليد الدينية والاجتماعية. في تلك الأيام المدهشة أخذت تتضح فكرة "موت الإله" في رأسي. فموته يكمن في عدم الحاجة إليه. إذ حلَّ العقلُ والمهارةُ والعملُ والسعيُ الحثيث محله.
 إنَّ "موته" ينكشف في اكتشاف "خرافته" وعبثية الطقوس الدينية. ومن أولى هذه الطقوس الدينية العبثية واللامعقولة هو الصلاة. فقد اكتشفت أن الصلاة الإسلامية من أعقد أنواع الصلوات في تاريخ البشرية [توجد المئات من المؤلفات عن الصلاة في الإسلام ولكنه جميعاً سخيفة المنطق والدلالات على حد سواء). إذ تحولت "الصلاة" إلى طقس معقد مُثْقَلٍ بالقواعد والأصول التي تناقض بصورة صارخة مع الادعاء الإسلامي بأن الله "عليم ما في القلوب"!
فوظيفة الصلاة الإسلامية، وهذه هي الخلاصة الكبرى الثانية بالنسبة لي، هي ذات طابع مدني وليس ديني. إنها فعل علني ظاهر أمام الملأ بالانتماء الديني للمصلين. ولم تكن صلاة الجمعة إلا ممارسة إحصائية للغائبين والحاضرين. وقد ساعد توسع المدن على فشل المهمة الإحصائية لصلاة الجمعة. لكنها بقيت ذات وظيفة "استعراضية" تشبه اجتماعات وتجمعات الأحزاب السياسية المعاصرة.
إنها إعلان عن سلطة الدولة العربية/الإسلامية.
فلو كانت "الصلاة" هي حقاً دعاء موجه لأله "عليم ما في القلوب" فما الضرورة من كل هذه القواعد والأصول والاستعراضات؟
إذن ليس "الله" عليماً ولا يعرف ما في القلوب. وهذه هي الخلاصة الثالثة.
8.
من هنا يبدأ مفترق الطرق الحاسم في حياتي:
لم أعد أحتاج إلى دليل يحميني من الدين!
لقد انفتحت أمامي مملكة المكتبات المركزية والمحلية والمدرسية. وقد قادتني المطالعة الدائمة إلى الخلاصة الرابعة:
عند تكتشف بأن الدين "وعي مزيف للعالم" تكتشف الصورة بكامل تجلياتها. وكل كتاب مقروء يتحول إلى حجر للبناء المستقبلي. ولشدة دهشتي اكتشفت أن قراءة القرآن لا تقل فائدةً عن فائدة الكتب المناهضة له. إذا بمرور الزمن سيكتشف المرء الصيغة المهلهلة لنص "القريان" التي تختفي وراء خط الثلث الجميل وتلاوته بأصوات جميلة.
إنه وهم الشكل لا جمال المضمون.
الآن دليلي هو عقلي المستقل.
فاخترت طريقي!
لم يكن سهلاً ولا معبداً بالزهور. لكنه كان الطريق الواقعي الذي قادني إلى عوالم لا يحلم بها المسلمون.
هذا هو العالم الوحيد الممكن: جحيماً كان أم جنة!
هذه هي البدايات.
والآن أشعر بالفخر لأنني كنت ذلك الصبي:
لقد فَلَتُّ من قبضة أصحاب محمد!
لا أعرف كيف حدث هذا وما هي القوة التي حَصَّنَتْنِي من زلل الإيمان. لا أعرف شيئاً غير أنه قد حدث والآن أشعر بسعادة غامرة لأنه قد حدث.

                        [ليست هذه هي النهاية، بل أنها بداية البدايات]
رجل في فضاء مظام أمام واجهة مضيئة



الحلقات السابقة:

البدايات (من تاريخ إلحادي) [3]: وداعاً أيتها الصلاة، وداعاً أيتها الأوهام!

1.
 وداعاً أيتها الصلاة، وداعاً أيتها الأوهام!
في مرحلة الدراسة المتوسطة وفي "مغامراتي اللادينية" والحياتية كان يرافقني صديقان من محلتنا وكنَّا أيضاً ولبعض الوقت في نفس المدرسة. 
كان أحدهما، وهو الابن البكر لضابط في شرطة العاصمة، وقد كان شيعياً متديناً إلى درجة السفاهة (أقصد الأب!). إذ كان يؤمن، كما كان يحدثنا صديقنا عن أبيه، بأن الأرنب كانت عاهرة مسخها الله عقاباً على ذنوبها. وقد كان هذا الأمر مضحكاً (ومحرجاً في بعض الأحيان) بالنسبة لنا وحين كنا نشاهد صورة أرنب في الكتب المدرسية أو في الشوارع كنا نغرق في دموعنا من الضحك ونتذكر "الأرنب العاهرة"!
2.
ورغم أننا جميعاً لم نكن نصلَّ ولا نذهب إلى الجامع القريب، كان صديقنا، ابن ضابط الشرطة، يعاني من ضغوط الأب من أجل الصلاة وعليه الذهاب إلى الجامع، كما كان يفعل جميع الأطفال "!". وهكذا وبعد الإلحاح والرجاء وافقنا على الذهاب معه إلى الجامع كدعم وتشجيع وتضامن (وكأنه ذاهب إلى المقصلة)!
كانت هذه هي المرة الأولى التي ندخل فيها إلى هذا الجامع ليس لغرض شرب الماء أو لقضاء الحاجات الفسيولوجية، كما هو عادة.  فقد كان هذا الجامع (مرحاضنا المفضل) لقربه من مكان تجمعنا، وقريبا من السوق.
3.
وهكذا دخلنا الجامع بشيء من الارتياب والحذر (وكأننا ندخل للمرة الأولى)، وتوجهنا للمرة الأولى ليس نحو مراحيضه الأثيرة على قلوبنا، بل نحو المسجد. اجتزنا بوابة الجامع العريضة ومررنا من أمام حنفيات الوضوء وكدنا نعبر الباحة المؤدية إلى المسجد عندما أشار رجل يضع على رأسه عصابة سوداء بأنه علينا الوضوء قبل الذهاب إلى المسجد.
وها هي أول مشكلة نصطدم بها ولم تكن تخطر على بالنا!
ذهبنا إلى حنفيات الوضوء "صاغرين" وأخذنا "نلعب" لعبة الوضوء (لم يكن أحد منا يعرف شيئاً عنه)، وقد اكتشفت بعد سنوات بأنه نوع من "نظافة القطط" التي تنظف نفسها بلعابها! وعندما أنهينا "لعبة القطط" هذه توجهنا إلى المسجد والإيمان "يَخُرُّ" من قلوبنا.!
[بعد سنين من هذه الحادثة وقد ودعت الأوهام إلى غير رجعة قرأت القول المنسوب إلى علي بن أبي طالب الذي يقول: " لو كان الدين بالرأي لكان أسفل الخف أولى بالمسح من أعلاه، وقد رأيتُ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم يمسح على ظاهر خفيه" تذكرت بمرح فكرة "وضوء القطط" وكيف أنها خالية من العقل والمنطق!]. اجتزنا باحة الجامع الفسيحة والماء يتصبب من وجوهنا (من غير إيمان) حتى وصلنا عتبة الباب الواسع للمسجد فوطأت أقدامنا أرضية السجاد بوجل وترقب. من هناك كنا نرى بداية الصفوف حتى نهايتها وعندما وقعَ نظرُنا على "الإمام" وقعتِ الصاعقةُ على رؤوسنا - أو بالأحرى وقعت الصاعقة على بقايا الدين في رؤوسنا!
4.
رأينا شيئاً لم يكن يخطر على بالنا:
كان إمام الجامع الذي يأمُّ المصلين بذراع واحدة!
عليَّ التأكيد هنا بصراحة قصوى أن الأمر لم يكن يتعلق بكونه بذراع واحدة. الأمر الهام والحاسم الذي أذهلنا هو أن هذه "الصورة" كانت تتناقض بصرياً وتقنياً وحسياً مع كل ما اعتدنا عليه من "صور" الدعاء بيدين مرفوعتين وكفين مفتوحتين تتذرعان إلى "العلي القدير" بتحقيق الرغائب التي لن تتحقق والتعجيل بأحداث لن تحدث"!".
ولهذا فإن التذرع بيد واحدة كان أمراً لامعقولاً وسوريالياً لم نستطع احتماله!
كان أكبر من طاقتنا على قبوله وأبعد من خيالنا عن تصديقه.
إنه "آية" من آيات العقل تقول لنا بأن هذا "الأمر" لا خير من وراءه.
5.
بعد سنوات من هذه الحادثة ظهر على سطح ذاكرتي " مشهد الإمام بذراع واحدة" عندما شاهدت لأول مرة فيلماً من عشرينات القرن الماضي، من عصر السينما الصامتة، حيث يصور المشهد إضراب عمالي وكانت جموع العمال متوجهة إلى ساحة المدينة وفي نهاية الطابور كان عامل أعرج يسعى إلى اللحاق بهم، باختصار: إنها تورية مدهشة عن النهاية الفاشلة "العرجاء" لمسعى العمال. وهي ذات النهاية لأهداف المسلمين الفاشلة وقد تقدمهم إمام الجامع ذو الذراع الواحدة!
6.
خرجنا هاربين جميعاً. لا أعرف ماذا حصل مع الآخرين، أما أنا فلم أدخل يوما بعد ذلك اليوم إلى جامع!
ملاحظة هامة
بعد سنوات طويلة وفي أثناء سنين غربتي دخلت إلى العديد من الجوامع والكنائس والكاتدرائيات والمعابد القديمة والحديثة سواء في بعض الدول العربية أو في أوربا وقد كان السبب الوحيد هو الاطلاع على معمار هذه المعابد لا لأسباب  فيزيولوجية أو دينية!

للموضوع بقية:

البدايات (من تاريخ إلحادي) [2]: بداية إدراك أكاذيب الدين

 1.
أكنتُ محظوظاً إذن؟
ربما، وبقدر ما يتعلق الأمر بالمحيط العائلي!
إن غياب الله في حياتي، في مَرْحَلَتَي الطفولة والصبي، لم يكن سماء خالية من الغيوم وأراضي آمنة من غير أعاصير. فقد كانت المدرسة هي "المصيدة" التي تترصدنا وتقيس درجات الإيمان في "قلوبنا". ولم يكن هذا في دروس مادة "التربية الدينية فقط" بل كان هناك على امتداد المراحل الدراسية الثلاث الكثير من "المتبرعين" لمراقبة ما يحدث في عقولنا وما ترتكبها ألستنا من "ذنوب". وعلى رأس هؤلاء "المتلصلصين" على عقولنا مدرس قميء للغة العربية في الصف الثالث المتوسط، إذا لم تخني الذاكرة. 
2.
كانت هذه بداية إدراكي بأنني "معادٍ" للعالم الذي أعيش فيه و"مرفوضٍ" من قبله وعليَّ الاحتراس. فـ"لامبالاتي إزاء الدين"، وهذا ما كان في البداية، معادلاً لارتكاب جرائم يعاقب عليها "القانون" (الفقرات غير المكتوبة في القوانين العربية!).
أُولى التحديات كانت في أحد دروس الإنشاء وبعد مرور مدة قصيرة على "عيد الأضحى". 
أعطانا مدرس اللغة العربية القميء واجباً بيتياً لكتابة إنشاء تحت عنوان: "عيد الأضحى المبارك!". حينئذ وعيت لأول مرة على "وقاحتي"، على حد قول المدرِّس، وكان عليَّ الدخول (كما يقول السياسيون الحركيون) في مرحلة "العمل السري". ففي الصفحات الأربع التي كتبتها (ولدهشتي الآن) لم استخدم ولا مرة واحدة كلمة "مبارك"؛ ولم أتحدث عن الصلاة ولا تقديم الأضاحي؛ ولم أتحدث عن "فرح الأطفال بالعيد" ولا "ابتهالات الكبار"؛ لم أشر لا من قريب ولا من بعيد إلى "حج بيت الله الحرام"! ولم "أشكر الله على نعمته"؛ و"لم استشهد بآية من القرآن". فقد كان إنشاءً لا وجود للدين فيه والله ينأى بعيداً عن الأرض.
3.
كنت باختصار: "وقحاً" و"كان قلبي خالياً من دفء الإيمان"، كما وصفني المدرس! ولم أكن متأكداً آنذاك فيما إذا كان عليَّ أنْ أفرح لهذه الأوصاف أم أحزن!
فعلى امتداد الصفحات الأربع تحدثت عن عائلة فقيرة في منطقتنا السكنية كانت الأم تجمع فضلات الطعام وتحمله إلى البيت. ولم يعرف أطفالها في ذلك "العيد المبارك" لا الهداية ولا "فرح الأطفال" ولا "ملابس العيد الجديدة". لا شيء آخر غير مظاهر العوز والفاقة والله كان بعيداً عنهم! والطامة الكبرى أنني لم أكشف عن أية مشاعر شخصية بمناسبة "عيد الأضحى المبارك" وكنت "وقحاً" حقاً عندما تساءلت من غير أية ضغينة ولا استخفاف: لماذا يترك الله هؤلاء الأطفال؟ وتحدثت عن زوجها السكير الذي يقضي طوال الوقت بعد العودة من عمله (وعندما ليس لديه نقود يسكر بها) في الجلوس مع آخرين عند عتبة باب الجامع القريب!
4.
وبعد عاصفة من التوبيخ الطويل، ذكرت بعضاً من مكوناته وأوفر على القارئ البعض الآخر، قال مدرسة العربية بثقة عالية:
 - من أين تعرف بأن الله قد تركهم؟ إن الله لا يترك عباده (أو شيء من هذا القبيل)!
 هذه كانت بداية إدراك الأكاذيب من جهة، وإن ما أقوله وما أفكر به يخضع للعقوبة ولموقف عدائية وعلى ما أفكر به أن يبقى هناك حيث هو في تلافيف الدماغ حتى "يظهر الخيط الأبيض من الخيط الأسود"! وعندما حللت في ملكوت المرحلة الإعدادية فإن "اللوحة" قد اتضحت ومعالم الطريق قد أخذت بالظهور و"الكلمة" الدالة، والمخيفة بعض الشيء، أخذت تدوي في أذني: ملحدٌ!


للموضوع بقية:

البدايات (من تاريخ إلحادي) [1]: عندما يولد المرء لادينياً

1.
عندما يولد المرء لا دينياً:
ولدت لادينياً.
 وكان هذا الأمرُ، من غير نقاش ولا مقدمات، على غفلة مني ومن الأهل والناس و"الله" وجميع الأرباب!
لقد فَلَتُّ بأعجوبة، والمؤمنون يقولون في مثل هذه الحالات: "بقدرة قادر"، غير أنَّ "هوية القادر" في حالتي هي موضع شَكٍّ وارتياب!
لقد فَلَتُّ، يا للنعمة، من قبضة محمد وأصحاب محمد. ولم أكن أعرف – ولا أزال: أيهما أكثر سوءاً محمد أم أصحابه!
صمدتُّ بقوة وعنفوان أمام إغراء الطقوس الجماعية و"المناسبات" الربانية المفبركة والأعياد والتقاليد الدينية التي لا عدَّ لها ولا حصر - وإنْ بدأت لا تنتهي!
لم أحنِ رأسي أمام ربٍ صنعه أمْيُّون؛
ولم أبتهل إلى رب السماء [فقد كنت أعرف دائماً بأن هناك طائرات وعصافير ومركبات فضائية كلُّ حسب ارتفاعاته الممكنة]، ولم أصلَّ من أجل المطر والسلامة - وأقل ما يمكن أن يحدث من أجل اجتياز الامتحانات!
لم أتفوه يوماً بكلمة "آمين" الآرامية إلا لمعرفة أصلها ومعناها القديم.
2.
لم "ألطمْ" في "عاشوراء" ليلةً [الشيعة يبكون في الليل فقط للاطفة الطقس] ولم أبكِ من أجل حُجَازيٍّ متسرع أحمق في قرارته– وقد اكتشفت فيما بعد بأنه لا يفقه من أسرار السياسة والحرب أكثر مما يفقهه تلميذ مدرسة، معرضاً بذلك نفسه وعائلته للموت والفناء من أجل حق بالخلافة منحته إياه الأحلام والأوهام وأحاديث مزورة وخرافات العجائز وأساطير القبائل!
3.
لا أعرف كيف حدث هذا، وما هي القوة التي حَصَّنَتْنِي من زلل الإيمان؟!
لا أعرف شيئاً لا يخضع للشك غير أنه قد حدث.
فلم أمرَّ في حياتي بما يسمى بـ"التجربة الدينية" ولم يخطر "الله" على بالي يوماً ولم تمس الشعائر الدينية "قلبي". وهذا ما وفر عليَّ آلام القرارات الصعبة ومحنة الشكِّ واليقين كما مرّ ويمر به الكثير من الصبيان والصبايا المنحدرين من عوائل مسلمة آنذاط والآن قبل أن تنير الحقائق عقولهم ويكتشفون طرق الخلاص من أوهام الدين، متحولين إلى ملحدات وملحدين:
متحولين إلى أحرار.
4.
كان أبي وأمي متدنيان ما يكفي لكي أمشي على طريقهما.
ولكنَّ لم يحدث مثل هذا الأمر. 
فأبي لم يضطرنا يوماً إلى أداء الصلاة ولا على إقامة الشعائر الدينية الأخرى ولم يوظف سلطته الطبيعية لهذا الغرض. فهو قد اكتفى بترديد: 
-  "لا إكراه في الدين قد تبين الرشد من الغي"!
كان ذكياً وعادلاً - ومات كما عاش ذكياً وعادلاً وسط الحطام الذي خلفته حروب الدكتاتور وعدم توفر العناية الصحية وغياب الأدوية في الصيدليات.
أما أمِّي فهي الأخرى متدينة، لكنها كانت أكثر توحداً من أبي في تدينها ولم أر يوماً ولم أسمع منها أي تحريض على التدين أو دَفْعَ الآخرين على إقامة الشعائر الدينية. كان "الله" – هذا الغريب الذي احتل فمها لها وحدها، وهي وحدها مُلْكٌ لهذا الرب!
كانت تصوم من غير "لافتات" ولا تظاهرات إيمان  ومن غير "زيطة وزمبليطة". . كانت تصلي وحدها بصمت وتَتسَتُّر في غرفتها لا يسمعها متصنت ولا يراها متطفل.
وهي الأخرى لم تعد بيننا الآن ولم أستطيع أن أودعها كما لم أستطع أن أودع أبي!
5.
"لا إكراه في الدين"!
 في البداية كنت أعتقد أن أبي هو صاحب هذا القول.
إذ حتى ذلك الحين لم أسمعه من أحد آخر غيره قطُّ ولم أقرأه في مكان ما!  فأبي كان واحداً من الناس القادرين على صياغة مثل هذه الأقوال. وما زلتُ أتذكر الكثير من "لآلئ الكلام" التي كان يطلقها بين الحين والآخر. فقد كان "صاحب نكتة" ومن الناس الذين "يقولون الكلام في وقته ومكانه".
- لا "تمشي مع الحمير، حتى لا تكتسب "هي" عاداتك!" (قال ناصحاً أحد أقربائنا: فهل كان يسخر منه أم يعطف على الحمير؟).
- لا تصلي إذا لم يكن لديك وقت (كان يقول لأخي ولم أكن أفهم حينها هل كان ينصحه بعدم الصلاة أم كان يتهكم منه!)
- لا تحشرني بربك – اهتم به لوحدك (قال مرة لجيرننا الذي كان يحلف بـ"بربه" كل ثانية وحول كل موضوع).
- لماذا تزعل من رأيي يا أخي؟ اعتبرني جاهل! (قالها لأحد محدثيه الذي لم يقبل من أبي أن يقول بإن فكرة أن يأتي علي بن أبي طالب راكباً جواده ويتجول في الأسواق هي فكرة سخيفة!)
6.
"لا إكراه في الدين"!
إنها أول مفارقة عظيمة في حياتي ودهشتي الكبرى:
"القريان" نفسه وليس أي كتاب آخر ينقذني من ورطته وسلطة الخضوع له التي يبشر به من أول "آياته" حتى آخرها!
هل هذا أمر معقول؟!
فيما بعد وعندما عرفت أن هذه الفكرة ليست من أفكار أبي، بل من "القريان" خطرت في رأسي أول "فكرة إلحادية" متبلورة وواضحة المعالم:
طالما كنت أعتقد بأنَّ أبي قادر على صياغة مثل هذه الأفكار، فأن "القريان" صناعة بشرية لا ريب فيها. وإنَّ ما أكَّدَ هذه الخلاصة هي تناقضات هذا الكتاب التي أدركت بعضها حينذاك وفيما بعد أدركت الأطنان منها.
ففي كل خطوة يخطوها المرء في قراءة هذا "الكتاب" يجد أن مؤلفه يقولُ ما يشاءُ، ثم لا تمرُّ إلَّا سطور ليقول ما يعارضه. فهو يترنح (أقصد مؤلف القريان) كالسكران من أقصى دراجات العنف والكراهية والجبروت حتى أقصى أفكار "التسامح" التي تبدو زائدة تماماً على خلفية لغة العنف والأنانية والتعصب.
إنه لا شكَّ كِتَاباً لمؤلفين لا يمكن عدهم وفي فترات تاريخية ومزاجية لا يمكن حصرها.
7.
فهذه الفكرة منحتني تفسيراً غامضاً لتمردي وعصياني:
لا أحد قادر على إكراهي - فهذا ما يقوله واحد من مؤلفي القريان.
ولدت حراً طليقاً كالطائر. صحيح كان طيراني سرياً وخطيراً وقد كنت معرضاً للهلاك في أية لحظة – لكنني كنت حراً.
كنت حراً في قرارة نفسي.
8.
لماذا كنت أهرب من أداء الطقوس؟
لماذا "لم يدخل الله في دماغي"؟
في ذلك الزمان، الزمان البعيد جداً من علياء اللحظة الراهنة، كانت عيناي مفتوحتين على اتساعهما ألْتَهِمُ الصور والرموز والمشاهد [مثلما كنت ألتهم الكتب] وكأنني كنت أعيش لحظاتي الأخيرة. إن سعي الآخرين [والآن اتضح لي بأنه هوس] نحو العبادة كان غريباً عليَّ ويستعصي على الفهم.
كنت أرى وأسمع إن إطاعة "لله" يمنح الخير والبركة. وقد كانت حياة هؤلاء الناس بالذات في الحضيض [ولم تتحسن حالة أحد منهم مطلقاً) !
أما طقوس عاشوراء فقد كانت محنة المحن:
لماذا كل هذا النحيب المتواصل على امتداد الأيام العشرة (فقط) على رجل مات منذ قرون طويلة وهو لا يمت إلى الناحبين بصلة لا من قريب ول من بعيد وفي الوقت الذي لا أراهم يذرفون الدموع على أجدادهم وجداتهم وآبائهم وأمهاتهم؟ ثم أسمع أن "أبا عبد الله" هذا سيتشفع لهم يوم القيامة؟ لماذا؟ أمام من؟
ولم يكن رمضان أقل غرابة بالنسبة لي.
كنت وكأنني من "سكان الفضاء" أراقب طقوس رمضان باستغراب وبرود [لم يكن برودي يتعلق بالأكلات الشهية]!
لم أكن أعرف الجواب بعدُ.
لكنني شيئاً فشيئاً وبمثابرة أحسد الآن نفسي عليها كنت أقترب من الأجوبة.
 
للموضوع بقية:

أحدث المقالات:

كتاب: حكاية الحمار العجيبة الذي قرر أن يكون مؤذناً!

المواضيع الأكثر قراءة:

◄ أربعة مقالات حول: خرافة "الرحمة" في الإسلام!

هل كان آينشتاين مؤمناً؟

مقالات عن الشيعة: اساطير التاريخ وأوهام الحاضر