منع

البدايات (من تاريخ إلحادي) [1]: عندما يولد المرء لادينياً

1.
عندما يولد المرء لا دينياً:
ولدت لادينياً.
 وكان هذا الأمرُ، من غير نقاش ولا مقدمات، على غفلة مني ومن الأهل والناس و"الله" وجميع الأرباب!
لقد فَلَتُّ بأعجوبة، والمؤمنون يقولون في مثل هذه الحالات: "بقدرة قادر"، غير أنَّ "هوية القادر" في حالتي هي موضع شَكٍّ وارتياب!
لقد فَلَتُّ، يا للنعمة، من قبضة محمد وأصحاب محمد. ولم أكن أعرف – ولا أزال: أيهما أكثر سوءاً محمد أم أصحابه!
صمدتُّ بقوة وعنفوان أمام إغراء الطقوس الجماعية و"المناسبات" الربانية المفبركة والأعياد والتقاليد الدينية التي لا عدَّ لها ولا حصر - وإنْ بدأت لا تنتهي!
لم أحنِ رأسي أمام ربٍ صنعه أمْيُّون؛
ولم أبتهل إلى رب السماء [فقد كنت أعرف دائماً بأن هناك طائرات وعصافير ومركبات فضائية كلُّ حسب ارتفاعاته الممكنة]، ولم أصلَّ من أجل المطر والسلامة - وأقل ما يمكن أن يحدث من أجل اجتياز الامتحانات!
لم أتفوه يوماً بكلمة "آمين" الآرامية إلا لمعرفة أصلها ومعناها القديم.
2.
لم "ألطمْ" في "عاشوراء" ليلةً [الشيعة يبكون في الليل فقط للاطفة الطقس] ولم أبكِ من أجل حُجَازيٍّ متسرع أحمق في قرارته– وقد اكتشفت فيما بعد بأنه لا يفقه من أسرار السياسة والحرب أكثر مما يفقهه تلميذ مدرسة، معرضاً بذلك نفسه وعائلته للموت والفناء من أجل حق بالخلافة منحته إياه الأحلام والأوهام وأحاديث مزورة وخرافات العجائز وأساطير القبائل!
3.
لا أعرف كيف حدث هذا، وما هي القوة التي حَصَّنَتْنِي من زلل الإيمان؟!
لا أعرف شيئاً لا يخضع للشك غير أنه قد حدث.
فلم أمرَّ في حياتي بما يسمى بـ"التجربة الدينية" ولم يخطر "الله" على بالي يوماً ولم تمس الشعائر الدينية "قلبي". وهذا ما وفر عليَّ آلام القرارات الصعبة ومحنة الشكِّ واليقين كما مرّ ويمر به الكثير من الصبيان والصبايا المنحدرين من عوائل مسلمة آنذاط والآن قبل أن تنير الحقائق عقولهم ويكتشفون طرق الخلاص من أوهام الدين، متحولين إلى ملحدات وملحدين:
متحولين إلى أحرار.
4.
كان أبي وأمي متدنيان ما يكفي لكي أمشي على طريقهما.
ولكنَّ لم يحدث مثل هذا الأمر. 
فأبي لم يضطرنا يوماً إلى أداء الصلاة ولا على إقامة الشعائر الدينية الأخرى ولم يوظف سلطته الطبيعية لهذا الغرض. فهو قد اكتفى بترديد: 
-  "لا إكراه في الدين قد تبين الرشد من الغي"!
كان ذكياً وعادلاً - ومات كما عاش ذكياً وعادلاً وسط الحطام الذي خلفته حروب الدكتاتور وعدم توفر العناية الصحية وغياب الأدوية في الصيدليات.
أما أمِّي فهي الأخرى متدينة، لكنها كانت أكثر توحداً من أبي في تدينها ولم أر يوماً ولم أسمع منها أي تحريض على التدين أو دَفْعَ الآخرين على إقامة الشعائر الدينية. كان "الله" – هذا الغريب الذي احتل فمها لها وحدها، وهي وحدها مُلْكٌ لهذا الرب!
كانت تصوم من غير "لافتات" ولا تظاهرات إيمان  ومن غير "زيطة وزمبليطة". . كانت تصلي وحدها بصمت وتَتسَتُّر في غرفتها لا يسمعها متصنت ولا يراها متطفل.
وهي الأخرى لم تعد بيننا الآن ولم أستطيع أن أودعها كما لم أستطع أن أودع أبي!
5.
"لا إكراه في الدين"!
 في البداية كنت أعتقد أن أبي هو صاحب هذا القول.
إذ حتى ذلك الحين لم أسمعه من أحد آخر غيره قطُّ ولم أقرأه في مكان ما!  فأبي كان واحداً من الناس القادرين على صياغة مثل هذه الأقوال. وما زلتُ أتذكر الكثير من "لآلئ الكلام" التي كان يطلقها بين الحين والآخر. فقد كان "صاحب نكتة" ومن الناس الذين "يقولون الكلام في وقته ومكانه".
- لا "تمشي مع الحمير، حتى لا تكتسب "هي" عاداتك!" (قال ناصحاً أحد أقربائنا: فهل كان يسخر منه أم يعطف على الحمير؟).
- لا تصلي إذا لم يكن لديك وقت (كان يقول لأخي ولم أكن أفهم حينها هل كان ينصحه بعدم الصلاة أم كان يتهكم منه!)
- لا تحشرني بربك – اهتم به لوحدك (قال مرة لجيرننا الذي كان يحلف بـ"بربه" كل ثانية وحول كل موضوع).
- لماذا تزعل من رأيي يا أخي؟ اعتبرني جاهل! (قالها لأحد محدثيه الذي لم يقبل من أبي أن يقول بإن فكرة أن يأتي علي بن أبي طالب راكباً جواده ويتجول في الأسواق هي فكرة سخيفة!)
6.
"لا إكراه في الدين"!
إنها أول مفارقة عظيمة في حياتي ودهشتي الكبرى:
"القريان" نفسه وليس أي كتاب آخر ينقذني من ورطته وسلطة الخضوع له التي يبشر به من أول "آياته" حتى آخرها!
هل هذا أمر معقول؟!
فيما بعد وعندما عرفت أن هذه الفكرة ليست من أفكار أبي، بل من "القريان" خطرت في رأسي أول "فكرة إلحادية" متبلورة وواضحة المعالم:
طالما كنت أعتقد بأنَّ أبي قادر على صياغة مثل هذه الأفكار، فأن "القريان" صناعة بشرية لا ريب فيها. وإنَّ ما أكَّدَ هذه الخلاصة هي تناقضات هذا الكتاب التي أدركت بعضها حينذاك وفيما بعد أدركت الأطنان منها.
ففي كل خطوة يخطوها المرء في قراءة هذا "الكتاب" يجد أن مؤلفه يقولُ ما يشاءُ، ثم لا تمرُّ إلَّا سطور ليقول ما يعارضه. فهو يترنح (أقصد مؤلف القريان) كالسكران من أقصى دراجات العنف والكراهية والجبروت حتى أقصى أفكار "التسامح" التي تبدو زائدة تماماً على خلفية لغة العنف والأنانية والتعصب.
إنه لا شكَّ كِتَاباً لمؤلفين لا يمكن عدهم وفي فترات تاريخية ومزاجية لا يمكن حصرها.
7.
فهذه الفكرة منحتني تفسيراً غامضاً لتمردي وعصياني:
لا أحد قادر على إكراهي - فهذا ما يقوله واحد من مؤلفي القريان.
ولدت حراً طليقاً كالطائر. صحيح كان طيراني سرياً وخطيراً وقد كنت معرضاً للهلاك في أية لحظة – لكنني كنت حراً.
كنت حراً في قرارة نفسي.
8.
لماذا كنت أهرب من أداء الطقوس؟
لماذا "لم يدخل الله في دماغي"؟
في ذلك الزمان، الزمان البعيد جداً من علياء اللحظة الراهنة، كانت عيناي مفتوحتين على اتساعهما ألْتَهِمُ الصور والرموز والمشاهد [مثلما كنت ألتهم الكتب] وكأنني كنت أعيش لحظاتي الأخيرة. إن سعي الآخرين [والآن اتضح لي بأنه هوس] نحو العبادة كان غريباً عليَّ ويستعصي على الفهم.
كنت أرى وأسمع إن إطاعة "لله" يمنح الخير والبركة. وقد كانت حياة هؤلاء الناس بالذات في الحضيض [ولم تتحسن حالة أحد منهم مطلقاً) !
أما طقوس عاشوراء فقد كانت محنة المحن:
لماذا كل هذا النحيب المتواصل على امتداد الأيام العشرة (فقط) على رجل مات منذ قرون طويلة وهو لا يمت إلى الناحبين بصلة لا من قريب ول من بعيد وفي الوقت الذي لا أراهم يذرفون الدموع على أجدادهم وجداتهم وآبائهم وأمهاتهم؟ ثم أسمع أن "أبا عبد الله" هذا سيتشفع لهم يوم القيامة؟ لماذا؟ أمام من؟
ولم يكن رمضان أقل غرابة بالنسبة لي.
كنت وكأنني من "سكان الفضاء" أراقب طقوس رمضان باستغراب وبرود [لم يكن برودي يتعلق بالأكلات الشهية]!
لم أكن أعرف الجواب بعدُ.
لكنني شيئاً فشيئاً وبمثابرة أحسد الآن نفسي عليها كنت أقترب من الأجوبة.
 
للموضوع بقية:

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

كتاب: حكاية الحمار العجيبة الذي قرر أن يكون مؤذناً!

المواضيع الأكثر قراءة:

◄ أربعة مقالات حول: خرافة "الرحمة" في الإسلام!

هل كان آينشتاين مؤمناً؟

مقالات عن الشيعة: اساطير التاريخ وأوهام الحاضر