عندما يغيب الشعور بالذنب!
أحد أهم أسس فلسفة الأخلاق عند البشر هو الشعور بالذنب عند ارتكاب جريمة أو فعل سيء إزاء الآخرين. وإن مثل هذا الشعور ليس من طبيعة الذئاب (والحيوانات بصورة عامة).
فكيف حدث أن فقدت القبيلة التي نتحدث عنها هذه الطبيعة الإنسانية واندمجت بالذئاب في كلٍ واحدٍ من غير انفصام؟
كيف حدث أن تخطت الحدود الفاصلة ما بين "الآدمية" والحيوانية؟
وَمَنْ هو (أو مَا هو الشيء) الذي جعل هذا التخطي ممكناً؟
1.
إنه "الله"!
كيف حدث هذا؟
ترى قبيلةُ التوحش بأن وجود الإنسان مرادف للعبودية: "وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ"!
والعبد، في ثقافة العبودية، من غير روح – فهو جزء من الممتلكات. والشيء المُمْتَلكُ من غير إرادة؛ والإرادة هي القوة الداخلية التي يقبل الإنسان أو يرفض أفعالاً محددة يقوم بها هو بنفسه أو ما يقوم بها الآخرون.
لقد استطاع الله أنْ"يَنْسَخ" الشعور بالذنب عند القبيلة ويحل محله الإيمان والجهاد. فتجد الأفعال الموجهة ضد الآخرين، ومهما كانت النتائج الحاصلة من هذه الأفعال، استحساناً من الله – أي من الفكرة التي يخضع لها أفراد القبيلة!
2.
"وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا وَظِلاَلُهُمْ بِالْغُدُوِّ وَالْآصَال"!
وهذا يعني بأن البشر (ولن نتحدث عن الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ وَالْجِبَالُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوَابُّ!) عبيد "لله". ومن هنا تنبع مشكلة تكاد لا حلَّ لها:
من هو الذي يطبق "إرادة" العبودية ويسهر على تنفيذها؟
فمن الحقائق التي لم تعد سراً على أحد أن هذا "الرب" عاجز حتى عن الدفاع عن نفسه ووجوده. وقد أوعز هذه المهمة للبشر. وهذا يعني أنَّ فرض العبودية وتطبيق "قوانين الله" ستكون مهمة بشرية. وتصبح العبودية عبودية لبشر!
3.
وهكذا رجعت القبيلة ملايين السنين إلى الماضي السحيق من تاريخ الإنسان الذي لا يُستبعد أن يكون الإنسان قد مرَّ فيه بفترة ما باعتباره من آكلي لحوم البشر!
إلَّا أن هذا "النكوص" تحول إلى شرع يرتدي مسوح الإيمان والتقوى ولم يعد الفرد يميز ما بين أصوله البشرية وانعدام الشعور بالذنب.
الآن لم يعد ثمة فرق ما بين أفراد القبيلة والذئاب:
لقد تحول "التوحش" إلى ثقافة يومية تسعى القبيلة إلى نشرها وتدريسها في المدارس الحكومية.
إنه التوحش!
4.
فما هي مظاهر غياب الشعور بالذنب؟
أولاً: المعصومية
إنَّ الحركات الإسلامية المدعومة بطرق مختلفة من قبل مراكز السلطة الإسلامية بالسر أو بالعلن (حكوماتٍ ومؤسساتٍ دينية) تعتبر نفسها معصومة عن الخطأ وإن تصوراتها وقراراتهم مقدسة.
"هي لا تفقه الاختلاف في الرأي، ونظرية احتكار الرأي، وعدم السماح بظهور أي رأي آخر يعارضها، وتسفيه الرأي الآخر وتحقيره، بل وعقاب صاحبه، ثم رفض الحوار مع الرأي الآخر، ورفض سماع أدلته وبراهينه؟!"[1]
[ملاحظة: إن موضوع رفض الرأي الآخر الذي يتحدث عنه الكاتب يتعلق بالرأي الإسلامي!]
5.
هذا هو الفكر الإسلامي المتسيد بقوة السلاح والمال والإعلام والذي يستند إلى "الرسالة الإلهية". وهذا هو الفكر الذي صنع ثقافة التوحش التي يتداولها اليوم كتاب المنتديات الإسلامية أو المنتديات التي يشترك بها المسلمون الدعاة.
فإذا كان هذا الفكر يحتكر الرأي حتى على حساب المسلمين الآخرين فما هي علاقته بالآخر المختلف عنه تماماً ديناً ودنيا؟
إن "وهم الحق المطلق" الذي يعتنقه المسلم المسيس يبرر أفعاله وأقواله. بل حتى الكذب والخداع يمكن تبريره طالما يخدم "الدعوة"!
ثانياً: الرؤية الدوغمائية للتاريخ:
إن المسلمين الدعويين ينتقدون الحاضر من وجهة نظر الماضي. غير أن "الماضي" هذا هو افتراض عن “ماضٍ" مقتبس من "النصوص"!
6.
إنهم يتجاهلون التاريخ بالكامل صانعين عنه صورة "وردية" لا وجود لها إلا في رؤوسهم [أنظر: المسلمون والفِكْرُ "الاهْتِشَاشِيُّ": ثقافة الأوهام والرغائب]. فهم حين يتحدثون عن "الحرية" و"حرية الرأي" و"الديموقراطية" فإنهم ينطلقون من تلك الصورة "الوردية" التي في رؤوسهم. بل وحتى عندما يتحدثون عن "العدالة الاجتماعية" – وهو موضوع لا يملون من الادعاء به مثلاً فإن حديثهم يجيء " مليئاً بالآيات والأحاديث النبوية التي تدعو إلى تلك العدالة، أو التي تقبل التفسير بهذا الاتجاه. وهي تقف عند هذا الحد، وتتصور أنها قد أثبتت بذلك قضيتها الرئيسية، وهي أن الإسلام يدعو إلى العدالة الاجتماعية، وأن هذه العدالة الاجتماعية تتحقق في الإسلام خيراً مما تتحقق في أي نظام آخر"![2]
والرد المعاصر النموذجي اللاهوتي على هذه الحقيقة المُرَّة هو الهروب نحو التفسير الدوغمائي الساذج بكون فشل تحقق القيم الإسلامية "المُفْتَرَضَة" على أرض الواقع هو أمر لا يمس "الجوهر".
7.
ولكن إذا كان هذ "الجوهر" الذي يدعون بوجوده قد ظل طوال حقبة تاريخية طويلة غير متحقق، فألا يدعونا هذا إلى الشك العميق في إمكان تحققه في عصرنا الحاضر؟[3]
غير أنهم عاجزون عن رؤية هذه المفارقة. والطامة الكبرى هي أنهم وفي الوقت الذي يقرون بفشل القيم الإسلامية على مستوى التطبيق (وليكن بسبب التطبيق الخاطئ!) فإنهم ينظرون نظرة تقديس إلى الماضي بكامله: رجالاً وأحداثاً وقرارات!
فهل كان سبب فشل الإسلام هو التطبيق الخاطئ أم أن التطبيق "الخاطئ" هي الصيغة الوحيدة للإسلام؟
8.
ثالثاً: الفكر الانتهازي والتبريري:
من مظاهر "الصورة المثالية لمهمات إدارة التوحش التي نرومها" يقول مؤلف كتاب "إدارة التوحش":
" تأليف قلوب أهل الدنيا بشيء من المال والدنيا بضابط شرعي وقواعد معلنة بين أفراد الإدارة على الأقل"![4]
وفي مكان أخر وبصدد سياسة " إدارة التوحش" إزاء "القوى" الأخرى يقول الكاتب:
"فِهْم قواعد اللعبة السياسية للمخالفين والمجاورين والتعامل معها بالسياسية الشرعية".[5]
هنا يكشف المؤلف بوضوح كامل كيف يمكن اختلاق "الضوابط الشرعية" لتبرير إجراءات لا علاقة لها بالشرع (من وجهة نظر الكاتب). بل وهو يمضي إلى أبعد من هذا حيث يتم نشر هذا "النفاق الفقهي" بين أفراد الإدارة حتى يكونوا على علم بالموضوع – أي حتى لا يتفاجؤون!
9.
إن "الصناعة الفقهية" الإسلامية كانت ولا تزال تقوم بعمليات تبرير شاملة لكل الجرائم التي حدثت في الماضي ولا تزال تحدث.
فصناعة "الضوابط الشرعية" في الإسلام تُنْتَجُ على طريقة الـ"mass production" بكميات تجارية! ومن ثم يأتي دور التأسيس: "آية" من هنا و"حديث" من هناك فيتم التحريم والتحليل باسم "الله" – "الذي لا إله غيره!".
هذه اللعبة الفقهية تجعل من أفعال الإنسان وظيفة دينية. وهي لذلك تفقد طابعها الشخصي – الإنساني.
وهذا ما يجعل الفرد "المؤمن" أن يقوم بأبشع الأفعال طالما تبررها "الضوابط الشرعية"!
10.
رابعاً، العنف:
بصدد تحليله لأسباب نجاح حركة العباسيين وفشل حركة النفس الزكية فإن مؤلف "إدارة التوحش" يخلص إلى سبب واحد أساسي (وهذا ما يكشف جهله التاريخي) وهو أن العباسيين قد استخدموا "الشدة" بينما النفس الزكية استخدم "الرخاوة واتقاء الدماء من الآخرين". [6]
وهكذا، يقول مؤلف إدارة التوحش" فَهِمَ الصحابة رضي الله عنهم أمر الشدة، وهم خير من فهم السنن بعد الأنبياء، حتى أن الصديق وعلي بن أبي طالب رضي الله عنهما مارسا التحريق بالنار"![7]
وإن ممارسة العنف (وقد كان "الصديق!" وعلي بن أبي طالب المثال) تستند بالنسبة لهم إلى تقاليد نبوية. فنقلاً عن ضرار بن الأزور وهو يصف محمداً:
" فما رأيت أحداً ليس رسول الله صلى الله عليه وسلم أملأ بحرب شعواء من أبي بكر، فجعلنا نخبره – أي أخبار الشر عن الردة وعظمها – ولكأنما نخبره بما له لا عليه، وكانت وصاياه للجند تدور حول جز الرقاب بل هوادة أو تباطؤ، حتى أنه رضي الله عنه حرَّق رجلاً يسمى إياس بن عبد الله بن عبد يا ليل ويلقب بالفجاءة".
إذاً ليس ثمة شخص أكثر عنفاً وقدرة على الحرب الشعواء من أبي بكر غير محمد!
وقد رأينا ورأى العالم أجمع ما قامت به الدولة الإسلامية في سوريا والعراق من بشاعات لا ترتكبها حتى الحيوانات المتوحشة.
11.هذا هو الخزين الذي لا ينضب للقسوة والإرهاب والكراهية الإسلامية ضد الآخرين:
إنه الله.
وهو يستند بالكامل إلى كتاب محمد المقدس من قبل الجميع.
فهل ثمة فعل أو عقيدة أو رأي أو تصور لاهوتي يقوم به المسلم من غير أن يستند فيه إلى هذا "الكتاب"؟
وإذا ما خلا هذا "الكتاب" لما يسعون إليه فإنهم "يولون" وجوههم شطر مصنع "الأحاديث"!
لقد كشفت داعش بالقول والفعل عن الوجه الحقيقي للدولة الإسلامية "الحقة" فيما إذا يمتلك المسلمون السلطة المطلقة:
أعمال العنف الشامل وعمليات الاغتيال والخطف وأخذ الرهائن والتفجيرات الانتحارية واسترقاق النساء والأطفال وارتكاب شتى البشاعات والجرائم التي لم ترتكب في أي حرب سابقة وتدمير آثار الثقافة الإنسانية والمتاجرة بالسلاح وسرقة أموال دول أخرى وجز رؤوس الأبرياء والاستحواذ على أملاك الآخرين "المسلمين" وتهجير مئات الآلاف من السكان المدنيين و .. و .. ....
12.
إن القساوة و"الشدة" التي تصرفت بها داعش في العراق وسوريا ضد المختلفين معهم، وحتى المسلمين منهم، ليخجل منها أي ضمير إنساني.
ليس ثمة "تأنيب ضمير" ولم يتوقف مرتزقة داعش أمام أية قيم إنسانية للوصول إلى أهدافهم الشخصية والدينية. لقد خرقوا كل القيم ومثلوا بجثث القتلى وقطعوا رؤوس الأبرياء بالسيوف وهم يتضاحكون صارخين بأعلى أصواتهم: "الله أكبر"!
إنهم جنود التوحش الإسلامي – قبيلة التوحش المعاصرة التي ترفع عالياً علم الله الأسود!
وما الوحشية التي تعرض لها المعلم الفرنسي يوم الجمع الماضي إلا تعبير ساطع عن ثقافة التوحش التي تهدد حياتنا بالخطر.
[1] [الحركة الإسلامية: رؤية نقدية، مجموعة مؤلفين، لبنان 2015]
[2] الحقيقة والوهم في الحركة الإسلامية المعاصرة، د. فؤاد زكريا، القاهرة 1986
[3] المصدر السابق.
[4] إدارة التوحش، ص 18
[5] [6] [7] المصدر السابق ص 20
ليس ثمة "تأنيب ضمير" ولم يتوقف مرتزقة داعش أمام أية قيم إنسانية للوصول إلى أهدافهم الشخصية والدينية. لقد خرقوا كل القيم ومثلوا بجثث القتلى وقطعوا رؤوس الأبرياء بالسيوف وهم يتضاحكون صارخين بأعلى أصواتهم: "الله أكبر"!
إنهم جنود التوحش الإسلامي – قبيلة التوحش المعاصرة التي ترفع عالياً علم الله الأسود!
وما الوحشية التي تعرض لها المعلم الفرنسي يوم الجمع الماضي إلا تعبير ساطع عن ثقافة التوحش التي تهدد حياتنا بالخطر.
[1] [الحركة الإسلامية: رؤية نقدية، مجموعة مؤلفين، لبنان 2015]
[2] الحقيقة والوهم في الحركة الإسلامية المعاصرة، د. فؤاد زكريا، القاهرة 1986
[3] المصدر السابق.
[4] إدارة التوحش، ص 18
[5] [6] [7] المصدر السابق ص 20
اقرأ أيضاً:
قبيلة الذئاب
قبيلة الذئاب
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق