[من هنا بدأت الأديان الإبراهيمية] |
ملاحظة هامة:
عندما أتحدث عن محمد فإنا أعني "المُحَمِّدِين" الكثيرين - الذين لا عدَّ لهم ولا حصر والذين قاموا بتشكيل شخصية "محمد" التقليدية "آخر الأنبياء" التي وصلت إلينا وساهموا بكتابة القرآن الذي بين أيدينا.
إذاً هو مجموعة من الصور المضافة من هنا وهناك - شخصية تراكمية ذات أبْعاد مختلفة (ووجوه مختلفة) وهذا ما يتضح من تعدد الشخصيات التي تتراوح ما بين "شخص مجهول" لا أحد يعرف عنه شيئاً "حقيقياً"- يعمل تاجراً عند زوجته؛ سرعان ما يتحول إلى عابد تقلق مضجعه تجارب دينية عنيفة؛ ثم يُصور باعتباره شخصاً متردداً خائفاً يختفي في أحضان زوجته العجوز (حيث كاد قبل ذلك أن يلقي بنفسه من الجبل) ؛ ثم فجأة يُصبح صاحب دعوة وذو إرادة قوية وتماسك شديد؛ حتى يظهر أخيراً وكأنه مقاتل شاهراً سلاحه ضد ما قرر أنهم كفار وقام بغزو قريش – أبناء عمومته!
1.
إنَّ المعرفة التاريخية (الثقافية والأنثروبولوجية ومكتشفات علم الآثار) بالأديان والتي تستند إلى الوقائع والأدلة العلمية القابلة للاختبار والتحقيق قدمت لنا عدداً من الحقائق الهامة من بينها:
المنشأ البشري للآلهة والأديان!
فبغض النظر عن الفرضيات المتعلقة ببداية ظهور الإيمان بالآلهة وعبادتها فإن المنشأ البشري للآلهة كان ولا يزال قاسماً مشتركاً لم يعد حتى من الممكن التخلي عنه أو تقديم تنازلات بشأنه. وإن كلَّ مُعارضة لهذه الحقيقة ذات منشأ ديني لاهوتي وهو أمر مفهوم تماماً.
فالأديان تستند بصورة جذرية، بل ومصيرية، إلى فكرة الكائن المتعالي والمُفارق اللاهوتية والذي يتمثل بالوجود الإلهي المقدس. إلا أنَّ هذه المنطلقات اللاهوتية لم تعد تقرر، كما كانت في الماضي، مصير الثقافة البشرية. إنها لا تمثل إلا مُعارَضَة للاتجاه السائد في آليات التفكير المعاصرة وهي ربما تمر في آخر أطوارها.
2.
الأنبياء بشرٌ قرروا أن يكونوا أنبياء!
إلا أن الدين لا يمكن أن يقوم من غير "صلة وصل" مع "الآلهة":
ينبغي للبشر أن "تستلم" الرسائل الإلهية بطريقة أو بأخرى (يا ليت هذا قد حدث في عصر الرسائل الإلكترونية!). ولأنه من غير الممكن عملياً أن تتحدث "الآلهة" مع جميع البشر (حينئذ سيصبح الابتذال مرئياً أكثر من اللازم!)، فهي مشكلة عملية و"أمنية" في آن واحد، فإنه ظهر في البداية الكُهَّان العارفون بالأسرار الإلهية والاتصال بالآلهة أنفسهم.
لقد قلت بأن اتصال الآلهة بالبشر مشكلة عملية وأمنية للأسباب التالية:
فهي مشكلة عملية لأنه من الصعب، وهذا أمر لا يمكن إنكاره، أن تتحدث الآلهة مع جميع البشر. إذن طالما قررنا واستخدمنا فعل "يتحدث" فقد انطلقنا من الحقيقة البشرية بصعوبة حديث "شخص" مع البشرية!
ولهذا فإن الكهنة، وهم ناس يتميزون بقدرات ومواهب واستعدادات دينية "لا يملكها الآخرون"، تحولوا إلى الجسر الواصل ما بين الآلهة والبشر الفانين.
إن هذا الدور الذي منحه الكهنة لأنفسهم لم يميزهم عن الناس الآخرين فقط، بل منحهم حق السيطرة على "المعلومات الأمنية" التي تخص الآلهة. ولهذا فإنَّ لهم دوراً "أمنياً". فهناك من "المعلومات المقدسة!" التي يجب ألا تقع في أيدي الناس العاديين!
ثمة ناس "مختارون" يحيطون بالكهنة يمكنهم الاقتراب من بعض هذه "المعلومات المقدسة"!
لكن طبيعة ودور الكهنة لم تكن واضحة بما يكفي بالنسبة للناس وإن تعددهم يُحبط من حجم مصداقيتهم. فطالما من الممكن أن يوجد أكثر من كاهن فإنه من الممكن أنْ يصبح كل شخص كاهناً.
ولهذا ظهر النبي!
3.
إنه "واحدٌ" في زمانه (أو هذا ما ينبغي، وإلا أي نبي هذا؟)، مختار من قبل الإله شخصياً (ورغم أن الأديان الإبراهيمية اختلقت شروطاً للنبوة وحددت صفات للنبي، فإن هذا الشروط والصفات غير ملزمة. فإرادة الله باختيار الأنبياء لا أحد يفهمها أو يفك أسرارها) وإنَّ قبول هذه المكانة وطاعته جزء من طاعة الآلهة.
4.
لكنَّ أهم الخلاصات المعرفية للأنبياء هو أن ما "توصلوا" إليه كان نتيجة لتراكمات تاريخية طويلة الأمد وذات مصادر مختلفة لعب الكهنوت (وخصوصاً في الأديان الإبراهيمية) دوراً فعالاً، وفي بعض الأحيان حاسماً، في تكوين وتشكيل شخصية هذا النبي أو ذاك.
إنَّ ما وصل إلينا من شخصيات موسى وعيسى ومحمد (وبغض النظر عن كونها شخصيات تاريخية أم لا فهذا أمر لا يؤثر على أسطوريتهم)، لهو نموذج مكتمل تم العمل عليه و"تحريره" خلال مراحل تاريخية طويلة جداً. وقد أصبح من الصعب على المؤمنين معرفة حدود الحقيقة وبداية الأوهام والخرافة.
وقد طبعت كل شخصية "نبوية" بثقافة الجماعة البشرية التي صنعت هذه الشخصية. فإذا كان موسى يحمل الكثير من خصائص الملوك السومريين والأكديين، وفي عيسى تلوح من بعيد العناصر الأدبية اليونانية وتجلياتها الرومانية، فإن في محمد خليط غريب ومتناقض من مكونات البداوة العربية الفجة إلى تأثيرات مختلفة من ثقافات الشعوب المجاورة. وهذا ما نجده بادياً للعيان حتى على مستوى العقائد والطقوس. فأي دراسة للقرآن لا يمكن إلا أن ترى الأصول اليهودية والمسيحية المكونة لنصوص القرآن. أما الطقوس العملية للإسلام فإنها خليط من الطقوس اليهودية والجاهلية مع بعض التحوير البسيط.
5.
النصوص "المقدسة" ليست مقدسة!
قدمت دراسة الكتاب المقدس حقائق مدهشة عن أصوله السومرية الأكدية والتي تزامن مع تمكن علماء السومريات في فك رموز الكتابة السومرية والأكدية. كما أثبتت التنقيبات الأثرية (وخصوصا أعمال الأكاديمي وعالم الآثار الإسرائيلي Israel Finkelstein) في حدود إسرائيل الحالية غياب الأدلة المادية على أن أحداث العهد القديم لها علاقة بالمنطقة المفترضة. كما وقدمت الدراسات المتعلقة بـ"موسى" نتائج مثيرة وبشكل خاص فرضية فرويد عن الأصل المصري لموسى [موسى والتوحيد].
وقد واصلت الدراسات التاريخية واللغوية المتعلقة بالعهد الجديد منهج وآلية البحث المتبعة في العهد القديم واستطاعت أن تميز أسلوب وتاريخ وطبيعة كُتَّابِ كُتُبِ العهد الجديد. وفي متناولنا الآن أغلب هذه الدراسات ويمكن الاطلاع عليها.
ورغم أن جذرية التغلغل في "القرآن" لم تصل إلى الحد الذي وصلت إليه الدراسات المتعلقة بالكتاب المقدس فإن "بشرية" القرآن من الوضوح والمباشرة بحيث يتسنى حتى للقارئ العادي أن يقف على طبيعته الأسلوبية المربكة والأخطاء المنطقية واللغوية والتاريخية التي تربطه بالقرون الهجرية الثلاثة الأولى.
فما هي الأفكار (المقترحات) التي توصل إليها محمد في إطار الدين الإسلامي والتي تستحق الاهتمام؟
للمقال بقية . . .
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق