منع

كتاب الحيوان الصغير [1]: الإنسان

[الصورة: إعادة بناء لرأس إنسان النياندرتال على أساس إحدى الجماجم التي تم العثور عليها]


1.
من الخطل الكبير ألا أبدأ هذه السلسلة: "كتاب الحيوان الصغير" بالإنسان. وإن حدث هذا فإنه[قد] يلومني عليه حتى الحمير - بالمعنى الحرفي للكلمة!
2.
الإنسان بحكم التعريف "حيوان" – سواء كان مفكراً وعاقلاً "Homo sapiens"؛
أمْ منتصباً "Homo erectus"؛
أم ماهراً – يجيد صناعة الأشياء"Homo habilis"؛
أمْ حيواناً ناطقاً؛
أمْ اجتماعياً،
فإنه يظل بحكم التعريف "حيواناً".
بل هو حيوان قُحٌّ وحَقٌّ وحقيقةٌ حتى لو نطق ما تيسر له (من أيِّ كلام كان ومن أي مكان وزمان) أو تكلم بطلاقة السياسيين وجعجعة المُضْحِكِين ولعثمة المغفلين أو كَتَبَ عن الأوهام ورتَّب بضع كلمات مربكة مهلهلة، أو سَطَّر آلاف الصفحات – مسروقة كانت من هنا أم من هناك، وسواء تقمص شخصية المنقذ أمْ كانَ محض سلعة من صناعة السلطان.
إذ أنَّ الكلام لا يشفع له أمام الطبيعة الحقة باعتباره حيواناً؛
كما أنَّ لا ربطة العنق والعمامة المغبرة المتعرقة، ولا الملابس الأنيقة أو الأسمال البالية توفر له أو عليه طبيعته القارَّة كونه كائناً ينتمي إلى فصيلة من فصائل مملكة الحيوان.
3.
وفي وسع المرء أنْ يواصل:
سواء كانَ نبياً أم سائق حنطور سكيراً، وسواء كان عالماً فيزيائياً أمْ شيخاً جاهلاً في أحد الجوامع السنية الريفية أو إحدى الحسينيات الشيعية الرثة فإنَّ الأمر سواء:
هو بحكم التعريف: حيوان.

[Australopithecus africanus وهي مجموعة الهومينيد الأحفوري من جنوب إفريقيا]

وسيظل من المهد إلى اللحد حيواناً مهما تكلم أو تفنن بحياكة الأكاذيب وصناعة المؤامرات، ومهما اتقن أساليب الخداع والتضليل، ومهما ادَّعَى أنَّه (...) أو لمْ يّدَّع أنه (...)، ومهما حلف بكل الكتب والمجلات والصحف الدورية – بل حتى لو حلف أغلظ الإيمان بـ"الكاما سوترا" "وبلاي بوي" و"التوراة" و"الإنجيل" و"القريان" وجميع الكتب الصفراء والحمراء والملونة بأنَّه إنسان ويمتلك بطاقة شخصية (الحق أن البطاقة الشخصية من أسوء الأدلة على أنَّ حاملها هو إنسان، لأنَّ الحيوانات البيتية في أوربا لها بطاقات شخصية وجوازات سفر) ...
سيبقى ما بقي الكُونُ قائماً حيواناً. . .
5.
فإذا اتضح هذا الأمر إلى حد الجزع والغثيان (وربما التثاؤب!) فإنه حينئذ وحينئذ فقط يمكن أن يُطرح هذا السؤال:
ولكن أليس ثمة منفذ للخلاص من هذا القدر اللعين؟
التاريخ الحقيقي للبشرية (وليس التاريخ الديني أو الكتب المدرسية التي يكتبها مغفلون) منحنا الجواب ممزوجاً بسلسلة من الآلام والمآسي البشرية والجرائم المتوحشة على حد سواء:
للإنسان فرصة واحدة وحيدة لا غير؛
شرط لا يمكن عبوره مهما تعددت الشروط، في أن يكونَ "إنساناً" وإنْ فرَّط بهذه الفرصة وذلك الشرط فإنَّ لا وجود لقوة يمكن أنْ تنقذه من مملكة التوحش:
أنْ يمتلك ضميراً وشعوراً بالذنب إنْ اقترف جرماً!
6.
هذا أمر لا يمكن المساومة عليه أو تعويضه ولا يقبل اللف والدوران حوله:
أنْ يكونَ "الإنسان" إنساناً فإنَّ هذا لا يعني غير شيء واحد:

أنْ يشعر بتأنيب الضمير متى ما أخطأ، ومتى ما ارتكب فعلاً لا ينبغي القيام به – بل هو يكف عن كونه إنساناً حتى في اللحظة التي يقترف فيها فعلاً مناقضاً لما يدعي به مع نفسه وأمام نفسه – بوجود أو بغياب المرآة. فإمكانيات خداع الناس لا تجعل من المُخادِع إنساناً، بل مجرد مخادِع رث. وهو لا يختلف عن أي ثعلب لا يعرف القراءة والكتابة (ولي عن الثعلب كلام منفصل) لكنه مع ذلك قادر على أنْ يسرق الدجاج مِنْ بيت أشرس المزارعين!
7.
فمهما اتصف الحيوان عن حق أو من غير حق بجميع الصفات البشرية الممكنة (أو أنْ يمنحها له البشر مجاناً!) كالذكاء والخداع والتكتيك والتستر والقدرة على التخفي والاختفاء والقوة والصبر والسرعة والتحمل وغيرها من الصفات فإنه لا يعرف تأنيب الضمير!
ولهذا فهو حيوان؛
إنه لا يعرف الشعور بالذنب ولا يَحُقُّ لأحد أن يطالبه بذلك.
فالحيوان بحكم التعريف غير مؤهل أن يكون مسؤولاً عن أعماله وعما يقترف من أفعال ولا يمكن تطبيق القوانين الجنائية الوضعية عليه.
ولهذا السبب أيضاً فإنَّ صاحب الكلب المسعور هو الذي ينبغي أن يتحمل تبعات ما يقوم به كلبه أمام القانون وليس الكلب نفسه. فالكلب المسعور "حيوان" ولا يشعر بالذنب ولا بتأنيب الضمير إنْ هجم على طفل رضيع أو شيخ عاجز عن الدفاع عن نفسه.
8.
إن "الشعور بالذنب" و"تأنيب الضمير" هما الحَاكِمُ والعَلَامَة الفَارِقَة على الحدود الفاصلة ما بين ثقافة التوحش والحضارة:


[إعادة بناء لرأس هومو ناليدي – Homo naledi من قبل عالم الحفريات جون غورشي]

لا يمكن اختراق هذه الحدود لا بالإرادة ولا بالرغائب.
فقوانين الطبيعة قد قالت كلمتها و "رُفعت الأقلامُ وَجَفَّت الصحف" كما قال أحدهم!
إنَّك لا تملك إلا نفسك وحكم التصرف بها.
وإن سعيت إلى امتلاك الغير أو السعي إلى إخضاعهم من غير أن تشعر بأنك قد اقترفت جريمة فأنت لا تزال في طور الحيوان – أياً كان هذا الطور؛
وإنْ سعيت إلى إعلاء خرافة العنصر النقي أو "خير أمة أخرجت للناس" وتفننت في تضيق العيش والتنفس على الآخرين، واخترعت أكثر أدوات الإرهاب تخلفاً أو تطوراً (والأمر سواء) من غرف الغاز الهتلرية إلى احتفالات الذبح والمجازر في الدولة الإسلامية؛ بل حتى لو بررت المجازر والقوانين المتخلفة وسعيت إلى تطبيقها أو رحبت بها أو سكتَّ على وجودها أو دَلَّسْتَ على حقائق حدوثها:
فأنت لا تزال في طور الحيوان – أياً كان هذا الطور.
فهذه هي ثقافة التوحش.
والتوحش من خصال مملكة الحيوان ولا علاقة لها بالإنسان.
9.
أنْ تشعر بأنَّ لك الحق في أنْ تؤمن بالخرافات والأساطير وتجعل منها نبراساً يضيء دربك وأنْ تقوم بتخريب وجودك المؤقت الوحيد وإضاعته بطقوس السخف وعقائد الوهم – فهذا حقك وهو أمر يمنحك إياه القانون ولا اعتراض عليه؛
أنْ تؤمن بأنَّ لك رباً هو "أفضل" الأرباب – سواء كان اسمه "الله" أو "إبريق الشاي الطائر" أو "الفيل الأبيض ذو الجناحين" أو "البطاطا المسلوقة"؛ وأن تعتقد بأن عقيدتك هي أنقى العقائد في الكون وأيديولوجيتك هي قمة العلم– فلتفرح بها ما شئت من الفرح فإنَّ هذا شأنك أنت وحدك؛
وإنْ آمنت بالشياطين والجن والملائكة والسعالي والعفاريت والغيلان وأم السلفوطي وعيشة فنديشة والطَنْطَل والندَّاهة وأم الدويس ويأجوج وماجوج وغيرها من الكائنات التي لم ترها عين مخلوق ولم تخطر على بال أحد فهذه مشكلتك؛
ولكنْ أن تشعر بهدوء وراحة بال بأنْ لك الحق في مطالبة الآخرين بأنْ يؤمنوا بذات الخرافات والأساطير، بل وتقوم بفرض هذا الأمر عليهم باستخدام سلطة دولة متخلفة هي خارج التاريخ فإنَّ لك عندي خبراً قد يسعدك:
أنتّ لا تزال في طور التوحش!
10.
كُنْ ما شئت أنْ تكون!
ولكن لا يمكنك أن تجمع في جسد زائل واحد - سوف يتعفن آجلاً أم عاجلاً ويتحول إلى غذاء للدود:
غياب الشعور بالذنب والإنسان.
هذا هو درس الحضارة – أدركته أم رفضت إدراكه!



ليس للموضوع بقية . . .




ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

أحدث المقالات:

كتاب: حكاية الحمار العجيبة الذي قرر أن يكون مؤذناً!

المواضيع الأكثر قراءة:

◄ أربعة مقالات حول: خرافة "الرحمة" في الإسلام!

هل كان آينشتاين مؤمناً؟

مقالات عن الشيعة: اساطير التاريخ وأوهام الحاضر