تلخيص لما مضى ولما هو قادم:
في هذه الموضوعات القصيرة والسريعة أردت أن أقول باختصار شديد بأن الطوائف الشيعية لا تختلف قيد شعرة عن الطوائن الفولكلور الشيعيف السنية في ثلاث مقومات أساسية (ثمة عشرات التشابهات الأخرى لكنها ليست موضوع اهتمامي الآن):
-المصدر الأسطوري للعقيدة.
-السلطة: هي الهدف المركزي والمميت لكل عقائدهم.
-الخضوع الساذج لمن سموهم" أئمة".
1.
ليس في العنوان أية لعبة لغوية، بل هو سؤال موضوعي يطرحه الواقع التاريخي (واستناداً إلى ما تزعمه المصادر الإسلامية) الذي يؤرخ ظهور الشيعة.
وهو لا يبدو مفارقة إلا على خلفية الأدب اللاهوتي الشيعي الذي قرر أن يحول الخرافات إلى عقائد والأساطير إلى تاريخ.
2.
لقد اتفقت جل المصادر العربية والأجنبية على أن مفهوم "الشيعة" لا يعني غير معنى "الحزب". إذ "بمقتل عثمان انقسم الإسلام إلى حزبين: حزب عليٍّ، وحزب معاوية. والحزب يُطلق عليه في العربية أيضاً "الشيعة"، فكانت شيعة علي في مقابل شيعة معاوية. لكن لما تولي معاوية الملك في دولة الإسلام كلها ولم يعد مجرد رئيس حزب، أصبح استعمال اللفظ "شيعة" مقصوراً على أتباع علي" [أحزاب المعارضة السياسية الدينية في صدر الإسلام، فلهوزن، القاهرة 1948، ص 171]
إذاً هو مفهوم سياسي يصور لنا موقف هذا الجماعة الإسلامية (الحزب) من قضية الخلافة ولا يعبر بأي حال من الأحوال عن تأييد علي بن أبي طالب لسبب اصطفاء إلهي. أقول هذا ولا أعني بأن العائلة العلوية لا تطالب بالخلافة (كما طالب بها الآخرون) وإنما كانت مطالب العائلة العلوية بالخلافة (وهذا ما تكشف عنه المصادر التاريخية) يعود إلى شعورها بالتميز بسبب أواصر القربى والدم بمحمد.
وإن ما يدعم هذا التحليل هو إن هذه "الجماعة" ونتيجة لما حدث فيما بعد انشقت على نفسها وتفرقت إلى عدد كبير من الفرق وتَسَمَّى المنشقون بأسماء مختلفة. ومن أولى هذه الفرق هي "الخوارج" الذين لم يخرجوا بصورة صريحة وحاسمة على قيادة عليٍّ بعد قضية التحكيم فحسب، وإنما تحول موقفهم إلى عداوة انتهت إلى الحرب.
فقد انقسمت الشيعة إلى أصناف، وانقسم كل صنف إلى فرق لا عد لها ولا حصر حتى تشكلت عشرات الفرق المختلفة والمتناقضة في موقفها من خلافة علي من جهة وخلافة أبي بكر وعمر وعثمان من جهة أخرى [أنظر: مقالات الإسلاميين واختلاف المصلين].
4.
ورغم هذه الوقائع التاريخية فإنه ما من طائفة شيعية، وهذه واحدة من الخصائص الملازمة لها، تحصر نشأتها في الحقبة التاريخية التي نشأت فيها وهي في نفس الوقت ترفض الشروط التاريخية لهذه النشأة. فهي، كما يقول فؤاد الخوري تعيد تكوين مجتمعها الديني إلى أبعد من ذلك بكثير، تعيده إلى جذور "إلوهية" هي من صلب التعاليم السماوية. وهنا يكمن الفرق بين تصور الطوائف لذاتيتها الدينية والتي تشدد على الجذور الألوهية لنشأتها وتصور الآخرين لها باعتبارها ظاهرة تاريخية سياسية [إمامة الشهيد وإمامة البطل، بيروت 1989]
5.
وهكذا يتضح بأن موقف "الحزب" العلوي من إمامة علي بن أبي طالب هو موقف سياسي يعتقد بأهلية علي بن أبي طالب وكفاءته مقارنة بالخلفاء الآخرين.
وهذا ما يعبر عنه عليٌّ نفسه (وحسب ما تقول المصادر الشيعية) في أكثر من مناسبة. فهو لم يطرح أية "أيديولوجيا" دينية لتسويغ خلافته. لأن الأمر لو كان كذلك لكان موقفه من خلافة أبي بكر وعمر وعثمان مختلفة طالما كانت خلافته "رسالة إلهية" منصوص عليها ف كتاب محمد ولا يحق له التنصل منها.
يقول عليٌّ في "خطبة" له:
"والله لقد بايع الناس أبا بكر وأنا أولى الناس بهم مني بقميصي هذا، فكظمت غيظي، وانتظرت أمر ربي، وألصقت كلكلي بالأرض، ثم إن أبا بكر هلك، واستخلف عمر، وقد علم والله أني أولى الناس بهم مني بقميصي هذا، فكظمت غيظي، وانتظرت أمر ربي.
ثم إن عمر هلك، وقد جعلها شورى، فجعلني سادس ستة كسهم الجدة، وقال: اقتلوا الأقل، وما أراد غيري، فكظمت غيظي، وانتظرت أمر ربي، وألصقت كلكلي بالأرض، ثم كان من أمر القوم بعد بيعتهم لي ما كان، ثم لم أجد إلا قتالهم أو الكفر بالله". [الأمالي، الشيخ المفيد، قم 1403هـ، ص 154][*]
أي إنه لم يفعل شيئاً غير الموافقة والتسليم بما حدث كاظماً "غيظه" ولا شيء آخر. فكيف حدث، وهو المؤمن الذي لا يعصى أمر الله، أن سكت على معصية أمر الله ورسوله؟
وهو في "خطبة" أخرى وعندما بلغه مسير طلحة والزبير وعائشة من مكة إلى البصرة، قال في خطبة له:
"نحن أهل بيته، وعصبته، وورثته، وأولياؤه، وأحق خلائق الله به، لا ننازع حقه وسلطانه، فبينما نحن على ذلك إذ نفر المنافقون، فانتزعوا سلطان نبينا صلى الله عليه وآله وسلم منا، وولوه غيرنا ، فبكت لذلك والله العيون والقلوب منا جميعا، وخشنت والله الصدور، وأيم الله لولا مخافة الفرقة بين المسلمين وأن يعودوا إلى الكفر، ويعور الدين لكنا قد غيرنا ذلك ما استطعنا"[المصدر السابق: ص 155]
فهو هنا لا يدعي غير أنه من "أهل البيت" وهذا الانتماء هو الذي يمنحه حق السلطان الذي "انتزعه منهم" المنافقون و"ولوه" غيرهم. وليس في هذا الكلام ما يوحي بوجود أية عقيدة دينية.
6.
وكالعادة ثمة حواجز شاهقة تمنعني من تصديق عقائد المسلمين وأخذها مأخذ الجد. فهم عاجزون عن تقديم تصور منسجم والشيعة مثال على ذلك.
فكما هو واضح بجلاء أن علياً لم يدَّع بأنَّ خلافته "لطف" من الله نُصَّ عليها بوصية لمحمد وضمنها كتابه بآيات وعَبَّر عنها بأحاديث وهو "باب العلم" في "مدينة محمد" الربانية!
ولنخطُ خطوة إلى الأمام:
في حرب علي مع معاوية في "صفين" خرج عليه جماعة كبيرة (12 ألفاً) من أخلص "شيعته". وكان خروجهم عليه (وأعني الخوارج) لا لأنه فرَّط بالوصية الربانية ومخالفته لإرادة ربانية بل لأنه وافق على التحكيم فتخلى بذلك عن الخلافة التي بُويع بها خاضعاً إياها للشك.
وإنَّ ما نراه من غير تأويل هو أن علياً، وبكلمات فلهوزن، "إنْ طوعاً وإن كرهاً – قد عقد ميثاقاً مع الشيطان (أعني مع معاوية) ولم يشأ نقض هذا الميثاق. لقد تخلى عن الحق الإلهي، حق الجهاد ضد عثمان ومعاوية، من أن يصون ميثاقاً مع بني الإنسان، ميثاقاً يقضي على ذلك الحق الإلهي. ولهذا ساخت الأرض تحت قدميه وقضى على الخلافة" [يوليوس فلهوزن ص 28].
وبعد أن انتهت "مهزلة التحكيم" قرر عليٌّ استئناف القتال مع معاوية فدعا الخوارج للانضمام إليه لكنهم لم يستجيبوا لدعوته وطالبوه بأن يشهد على نفسه بالكفر ويستقبل التوبة. وقد كان هذا الموقف يعبر عن تصورهم لاستجابته مرغماً لقبول التحكيم في صفين [أنظر: تارِيخ الدَّوْلةُ العرَبيَّة: مِنْ ظُهُور الإِسلاَم إِلى نِهايَةِ الدّولةِ الأمَويَّة، فلهوزن، القاهرة 1968]
7.
وها نحن نصل إلى الخطوة الحاسمة: تصورات عليٍّ عن نفسه في أثناء حربه مع معاوية.
استناداً إلى خطبه وكتبه إلى معاوية الواردة في [نهج البلاغة، علي بن أبي طالب، 2004] فإننا لا نجد فيها ما يكشف صراحة أو بالإيحاء بأن له مكانة متميزة عن الخلفاء أو أن يكون "إماماً" موصى به من العناية الإلهية.
من كتاب إلى معاوية نقرأ ما يلي:
"إنه بايعني القوم الذين بايعوا أبا بكر وعمر وعثمان على ما بايعوهم عليه، فلم يكن للشاهد أن يختار، ولا الغائب أن يرد، وإنما الشورى للمهاجرين والأنصار، فإن اجتمعوا على رجل وسموه إماماً كان ذلك لله رضى، فإن خرج عن أمرهم خارج بطعن أو بدعة ردوه إلى ما خرج منه، فإن أبى قاتلوه على ابتعه غير سبيل المؤمنين، وولاه الله ما تولى"[نهج البلاغة، ص 367].
فهو لا يستند في حقه على شيء آخر غير المبايعة فقد "بايعه" القوم كما بايع أبا بكر وعمر وعثمان وليس ثمة شرط للخضوع لأمره غير تقواه وأن خرج عن أمرهم قاتلوه.
بل نراه في (كتاب إلى أهل الأمصار) ومن غير لبس ولا تأويل يساوي نفسه بجيش معاوية في التقوى والانتماء الديني ويرى بأنهم (هو وجيش معاوية الذي يحارب ضده) ولا خلاف فيما بينهم إلا دم عثمان:
"وكان بدء أمرنا أنا التقينا والقوم من أهل الشام، والظاهر أن ربنا واحد، ونبينا واحد، ودعوتنا في الإسلام واحدة، ولا نستزيدهم في الإيمان بالله والتصديق برسوله ولا يستزيدوننا: الأمر واحد إلا ما اختلفنا فيه من دم عثمان ونحن منه براء!" [نهج البلاغة: ص448]
8.
ومن يتصفح كتاب "نهج البلاغة" (سواء كان لعلي بن أبي طالب أم منتحلاً) فإنه لن يجد أي أثر للعقيدة الشيعية عن "الإمام المعصوم" أو "أن الإمامة كالنبوّة؛ لا تكون إلاّ بالنص من الله تعالى على لسان رسوله، أو لسان الإمام المنصوب بالنص إذا أراد أن ينص على الإمام من بعده". [عقائد الإماميّة، محمد رضا المظفر].
إن تعريف الشيعة الذي يطالعنا به الشهرستاني باعتبارهم الجماعة التي شايعت علياً على الخصوص "وقالو بإمامته نصاً ووصية، إما جلياً، وإما خفياً. واعتقدوا أن الإمامة لا تخرج من أولاده، وإن خرجت فبظلم يكون من غيره، أو بتقية من عنده. وقالوا: ليست الإمامة قضية مصلحية تناط باختيار العامة وينتصب الإمام بنصبهم، بل هي قضية أصولية، وهي ركن الدين، لا يجوز للرسل عليهم السلام إغفاله وإهماله، ولا تفويضه إلى العامة " [الملل والنحل، الشهرستاني، 1968، ص 146] لا يصف إلا ما وصلت إليه الشيعة في زمانه. إذ أن جل العقائد الشيعية قد ظهرت في مرحلة متأخرة جداً من حياة علي ونتيجة لأسباب وأحداث وشروط سياسية مختلفة خلقت تصورات مزيفة عن الماضي تحولت بدورها إلى حقائق كما سنتطرق إليه في الحلقات القادمة.
فهل ثمة ما يسوغ فكرة أن علياً كان يوماً "شيعياً" بالمعنى الذي يكشف عنه الأدب الشيعي المعاصر - أي أنه يدرك تميزه الذي يستند إلى "وحي" وإنَّ شخصيته الموجودة في هذه الأدب تَمُتُّ بصلة إلى علي بن أبي طالب التاريخي؟
[*] تقول ويكي شيعة عن كتاب الأمالي:
"الأمالي كتاب باللغة العربية لكاتبه الشيخ المفيد (المتوفي 413 هـ)، الذي يشتمل على روايات أخلاقية واعتقادية وتاريخ الإسلام".
للموضوع بقية ...
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق