منع

حكاية الحمار العجيبة الذي قرر أن يكون مؤذناً [10]: الإغتيال

رأس الحمار فقط وهو يستلقي على الأرض


[1]
قرار الحُكْم:
لم يمض أكثر من أسبوع على جلسة المحكمة الأخيرة التي نظرت في قضية الحمار نشرت الصحف الحكومية الرسمية خبر إطلاق سراح الحمار بكفالة مالية قدرها 100000 دولار أمريكي وتعهد خطي بعدم التدخل في السياسة والامتناع عن مناقشة الأمور الدينية التي تمس الذات الإلهية وسمحت له بالصلاة خمس مرات في اليوم على شرط عدم حضور صلاة الجمعة.
وقد نشرت إحدى صحف الحكومة المستقلة صورة للحمار وهو يغادر سجن التحقيقات وقد قدم له أحد الشرطة باقة من أزهار الورد الأحمر بمناسبة إطلاق سراحه!
[2]
الحرية الوهمية:
عندما خرج صاحبنا من المعتقل ووطأت "أقدامه" أرض الشارع المبلط مرت بمحاذاته وكالصاروخ سيارة سوداء بدون رقم. فتسمر في مكانه متابعاً السيارة السوداء وهي تختفي عن أنظاره.
لم يولِ الأمر أية أهمية، على عادته، فقد كان مبتهجاً لخروجه من السجن. رفع رأسه عالياً وهو يستنشق هواء الصباح بمليء رئتيه.
فكر بزوجته وأطفاله. . .
كان الشوق إليهم يحرق قلبه فسالت الدموع من عينيه وأخذ ينحب بأعلى صوته [للأسف فهم المارة بكاءه بصورة مغلوطة. فهم كانوا يعتقدون بأنه ينهق!].
لم يكن يدرك ما الذي يحدث حوله.
ولأنه كان قادراً على التفكير والتأمل في أي نقطة من المكان والزمان فقد كان متسمراً في وسط الطريق قاطعاً السير حيث تشكل طابور طويل من السيارات التي ينتظر سائقوها أن يعبر صاحبنا الشارع ويحرر الطريق. فأسرع بعبور الشارع وكادت إحدى السيارات تدهسه وقد أخرج السائق رأسه من نافذة السيارة صارخاً بأدب "جمِّ":
- هيه يا حمار، هل هذا وقت الحمرنة؟!
- وهل تبقى شيء من الحمرة؟!
ردد صاحبنا مع نفسه ثم تنبه إلى باقة زهور الورد الأحمر التي كان يقبض عليها بأسنانه فرماها تحت قدميه وأنطلق باتجاه القرية.
[3]
لم تكن [Donkey village] كما كانت عليه قبل اعتقاله.
لقد تغير كل شيء. وكما تقول القطة المرقطة [نقلاً عن هيراقليطس]: "لن تنزل النهر مرتين".
إذ كل شيء يتغير .. كل شيء يتحول. لكن مشكلة هذه القرية المستحيلة التي لا وجود لها على خارطة العالم هي أنها تتغير باستمرار إلى الأسوأ حتى أنَّ الشعور باقتراب الكارثة يلفُّ الجميع.
تسلقت القطة المرقطة منارة جامع القرية الذي بني على عجل حتى يتم افتتاحه في يوم "المولد النبوي". وقد كانت على ثقة بأنَّ هذه المنارة سوف تتهاوى في يوم ما [وقد تهاوت فعلاً في لحظة تهاوي القرية بسكانها].
كانت القطة المرقطة شاهدة على تاريخ بناء المنارة ورأت "بأمِّ عينيها" كيف تم إنجازها من مواد البناء الرخيصة، مثلما كانت شاهدة على مطالب أمين الشحات إمام الجامع الأحول المستمرة أنْ يقتصد العمال باستخدام السمنت. فقد كان إمام الجامع الأحول يكره التبذير جداً حتى كان يتمنى أنْ يتم بناء المنارة من طين المستنقع الذي يحيط بالجامع. ولهذا فقد كان الجزء الأكبر من أموال التبرعات التي يقدمها مهابيل القرية لبناء الجامع تذهب بهدوء وسلاسة إلى جيب إمام الجامع بدلاً من تبذيرها في مواد تضر ولا تنفع كما يقول!
وحسب معلومات القطة المرقطة فإنَّ إمام الجامع قد بنى بيتين خلال السنتين الأخيرتين من أموال التبرعات. وقد حدث هذا بدعم وصمت المختار الذي شمله إمام الجامع ببعض الخيرات [شاحنة بيك آب [Pick-Up] كهدية تعبيراً عن الود والامتنان بمناسبة عيد الشجرة!].
[4]
ظلت القطة المرقطة تراقب القرية من أعلى نقطة في القرية بانتظار الكارثة.
وخلافاً لجميع سكان القرية من الناس والحمير والماعز والقطط والكلاب، فإنها كانت تسخر من عقولهم، التي تصفها بالفاسدة كبيض دجاج القرية من شدة ارتفاع درجة الحرارة. إذ أنَّ ولعهم بانتظار قرب ظهور صاحب الزمان وخروج الأعور الدجال لا يثير فيها غير مشاعر القرف والاستهزاء في آن واحد.
فالأعور الدجال هو في الجامع أمامهم كل يوم: يؤم صلاتهم ويسرق تبرعاتهم أمام عيونهم.
أما الشعور باقتراب الكارثة من قبل سكان القرية فهو الشعور الوحيد الذي تأخذه القطة مأخذ الجد. وهي تعرف من تجربتها الغنية بأنَّ كوارث القرية لا علاقة لها بـ"صاحب الزمان" وهي تعرف جيداً بأنَّ الزمان لا "صاحب" له غير الخرفان والماعز التي ترعى حول القرية من غير أن تكترث لا بالزمان ولا المكان. إذ يجدها الناس ترعى في كل زمان وفي كل مكان حتى في غرف نومهم وفي سقائف مطابخهم، وفي الجامع، وفي غرفة المدرسة الوحيدة.
[5]
الكارثة التي تنتظرها القطة المرقطة لـ Donkey village هو أنْ تبتلعها الأرض كما ابتلعت سكان القرية المجاورة ولم يعرف أحد مصيرهم. ولأنَّ للكوارث دائماً بدايات تمهد لها فإنَّ إطلاق سراح الحمار وكأنَّ شيئاً لم يكن هو إنذار بأن الكارثة قادمة.
وفي هذه اللحظة بالذات من تأملات القطة سمعت عدة إطلاقات مكتومة.
وعندما صعدت القطة على سياج المأذنة العالي لم تر شيئاً غير مشهد الحمار وهو يجرجر قائمتيه الخلفيتين بصعوبة ثم سقط على الأرض من غير حراك.
[6]
النهاية المحتومة:
بعد ساعات فقط من إطلاق سراحه عثر أهل القرية الذاهبون إلى أعمالهم على جثة الحمار ملقاة في وسط الساحة المركزية للقرية!
أول من عثر عليه كانت القطة المرقطة التي كانت شاهدة على مصرعه.
كان يبدو وكأنه نائم.
لا تبدو على وجهه آثار ألم أو أسى – بل يبدو وكأن ابتسامة سخرية تتسلل من فمه المغلق.
وعندما نزلت القطة المرقطة من المنارة، التي تهاوت حالما نزلت منها، اقتربت من جثة الحمار ولاحظت بوضوح ثمة حفرة في صدغه والدم لا يزال يسيل حتى شكل بركة حمراء تحت مطيع الغائب.
لقد أصبح واضحاً بالنسبة لها بأنَّ نهاية الحمار هي نهاية الجميع.
فالذي حدث مع مطيع لم يكن غير استهتار القرية بوجوده وتحميل آراءه أكثر مما تحتمل.
ولأول مرة شعرت القطة بالأسى وأنها تعيش في عالم لامعقول.
- هل يستحق الأمر كل هذا؟
تساءلت القطة بغضب شديد، لكنها لم تكن قادرة على أن تفعل أكثر من هذا. فتركت المكان وهي تسير على غير عادتها ببطء وتثاقل.
بعد هذا اليوم لم ير أحد من أهل القرية القطة المرقطة قطُّ.
أما هي فلم تسمع بعد ذلك اليوم بوجود القرية أيضاً!
[7]
لم يثر غياب القطة المرقطة اهتمام أحد. فكلُّ واحد من أهل القرية الآيلة إلى الانقراض كمنارة الجامع [الحمير والبشر والماعز والخرفان والكلاب والقطط] حائر بمصيره الكارثي الذي على قاب قوسين أو أدنى.
كانت لقضية مطيع الغائب نتائج خطيرة لم يكن يتوقع حدوثها أحد – بل وآخر ما كان يمكن أن يتوقعها هو نفسه.
هنا يكشف "تأثير الفراشة" لنظرية الفوضى عن كامل صورته ومعانيه.
فهذا "الحدث الصغير" الذي اعتادت الصحافة المحلية والعربية والعالمية باعتباره "قضية مطيع الغائب" قد أدى إلى أحْداثٍ وتحولات عاصفة في حياة البلاد.
لقد تحولت "قضية مطيع الغائب" إلى "إعصار مطيع الغائب".
والمدهش في الأمر هو أنَّ هذا "الإعصار" وربما لأول مرة في تاريخ الأعاصير الفتاكة يحمل اسماً مذكراً مخالفاً للمنطق الفقهي الإسلامي الذي يعتبر النساء مصدر المصائب!
إنه "إعصار مطيع"!
[8]
فإذا ما أخذنا بنظر الاعتبار إحالة وزير الداخلية على التقاعد ومصادرة سياراته العشر والدراجة الهوائية العائدة لحفيده الصغير؛ وطرد الناطق الرسمي باسم هيئة الإفتاء الوطنية [أو القومية] من الخدمة والبلاد في آن واحد؛ وتجميد عمل "وزارة الأوقاف" إلى إشعار آخر واستحداث وكالة جديدة تحت اسم "المطاردة الديموقراطية لأصحاب الرأي"؛ وغلق دار "سينما الوطن" لأنها عرضت قبل فلم "طرزان" الأخبار المحلية التي أشارت إلى "قضية مطيع الغائب"؛ وغلق مطعم "الأفراح" لأنه ابتكر سندويشاً جديداً تحت اسم "سندويش مطيع"؛ وغلق جميع الطرق الدولية والفرعية والتجارية المؤدية إلى " Donkey village " وإزالة مادة الأسفلت منها نهائياً؛ وإقالة أمين الشحات الأعور كإمام لجامع القرية وتعينه سفيراً للبلاد في الفاتيكان؛ وإلقاء القبض على جميع القطط في القرية واستجوابها حول المقر السري للقطة المرقطة [إذ يعتقد بأنها عميل سري للمخابرات السويدية].
فإنَّ "إعصار مطيع" قد أدى إلى نتائج اقل ما يقال عنها بـأنها كارثية على " Donkey village"!
[9]
إنَّ ما حدث في Donkey village قد خرج عن طاقة الجميع لا على تحمل المفاجأة بأنَّ يقوم حمار قروي بالتمرد على الإرادة الإلهية فقط بل وقد أثبت أنَّ عالمهم يتهاوى من الداخل من غير تدخل الاستعمار والامبريالية والصهيونية.
لقد كان الحمار مطيع الغائب واحداً منهم؛ ولم يكن غير أضعف الحلقات ومع ذلك فقد تمرد عليهم وعرضهم كما تفعل أجهزة العرض السينمائي أمام الجميع في وضح النهار وأجبرهم على ارتكاب أكبر الحماقات ووضع في قلب البلاد الفضيحة التاية:
اغتيال حمار بحجة الاعتراض على الإرادة الإلهية!
[10]
وهكذا فقد كان على الحكومة أنْ تقوم بما قامت به بصدد القرى الأخرى:
مسح Donkey village عن وجه الأرض وإلغاء واجتثاث أية آثار لها. إذ لم تكن أوامر الدولة ترحيل سكانها وتدميرها وإنما تدمير القرية بسكانها ومنع أي كائن حي من الخروج منها.
ولم ينجُ من المذبحة غير اثنين:
أنا والقطة المرقطة!






ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

أحدث المقالات:

كتاب: حكاية الحمار العجيبة الذي قرر أن يكون مؤذناً!

المواضيع الأكثر قراءة:

◄ أربعة مقالات حول: خرافة "الرحمة" في الإسلام!

هل كان آينشتاين مؤمناً؟

مقالات عن الشيعة: اساطير التاريخ وأوهام الحاضر