لا يشكُّ "إبراهيميٌّ" واحدٌ ولا ثانية واحدة، بل ولا حتى "نانو" من الثانية، بفرضية "إنَّ الله عليم بذات الصدور" و"إنَّ الله عليم خبير" وغيرها من مظاهر الهوس المخابراتي الإبراهيمي. وأعتقد أن أركان كتبهم الإبراهيمية "المقدسة" تستند إلى هذه الفرضية بالذات. فماذا يتبقى من هذا الإله إذا كان لا يعرف ما كان ولا يعرف ما سيكون؟
طبعاً، لا شيء!
1.
من نافلة القول التأكيد على أنَّ فرضية "العلم" و"الخبرة" هذه من الناحية الإجرائية تفعل فعلها كــ "جهاز مخابرات" من المستوى الرفيع في الأنظمة الشمولية القمعية وهي لا تجد أية غضاضة من أن تنسب لنفسها فكرة القدرة على معرفة كل مُعادٍ للنظام ومراقبة ورصد كل "التحركات المشبوهة" بين السكان. بل أن هذا النوع من الأنظمة يوحي لمواطنيه بأن أجهزتها قادرة على الكشف عن أي سلوك معادٍ لها وهي على اطلاع على مناقشاتهم وتعليقاتهم المعادية. وهي تبادر بنفسها إلى طرح السؤال المتوقع عن سبب عدم تحركها واتخاذ الإجراءات القامعة مثلاً، ومن ثم تجيب عليه بنفسها: حتى تعرفون بأننا متسامحون وصبورون حتى تعودون إلى رشدكم. وهو نفس صوت الإله الإبراهيمي: "فَمَن تَابَ مِن بَعْدِ ظُلْمِهِ وَأَصْلَحَ فَإِنَّ اللَّهَ يَتُوبُ عَلَيْهِ ۗ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ "!
2.
إن نوعي الرقابة، أي رقابة الدولة الشمولية عبر أجهزتها وما يسمى بـ"الرقابة الذاتية"، هما وجهان لعملة واحدة. وتكشف تجربة الدولة النازية والدول الاشتراكية السابقة جميعاً (مع بعض الاختلافات الطفيفة) عبر وثائق أجهزتها السرية بأن طموح هذه الأنظمة هو توسيع جغرافية "الرقابة الذاتية" لأنه أكثر فعالية وجذرية من الرقابة الخارجية إذا صح التعبير. وتكتسب الرقابة الخارجية أهمية استثنائية في خلق الظروف السيكولوجية والمناخ السياسي العام لتفعيل الرقابة الذاتية.
3.
لكن الدولة الشمولية، على الرغم نت جبروتها، غير قادرة على تخصيص شرطي لكل مواطن [ هذه الفكرة واحدة من الأساطير المنتشرة بين مواطني الدول الاشتراكية السابقة لكنها من الناحية العملية تخلو من أية مصداقية. لا لأن الدولة الاشتراكية لا ترغب في حدوث مثل هذل النوع من الرقابة، بل لأنها غير قادرة عملياً]. ولهذا لابد من "نقل" الرقابة إلى داخل الفرد:
خلق شرطي في رأس كل مواطن يحرس ويراقب أفكاره وتحركاته. وهكذا يراقب أفراد المجتمع أنفسهم بأنفسهم. وهو عمل يوفر على الدولة الشمولية موارد وأجندة لا تقدر بثمن.
4.
لكن الرقابة الذاتية لها جانب هام آخر، هو تفعيل النوع الثالث من الرقابة:
مراقبة أفراد المجتمع بعضهم البعض الآخر!
وقد كشفت وثائق أجهزة الأمن السياسي في الدول الاشتراكية السابقة وهي وهي تحمل أسماء مختلفة وتنتمي إلى جهات حكومية مختلفة وبشكل خاص الجهاز السري لوزارة أمن الدولة لألمانيا الديموقراطية الشعبية، والمعروفة في الصحافة العالمية تحت اسم "Stasi شتازي" [والسبب يعود إلى أن الحكومة الفيدرالية الألمانية، خلافاً للحكومات الجديدة للدول الشرقية بعد التحولات، قد وفرت شفافية عالية بالاطلاع على هذه الوثائق] حقائق مذهلة عن هذا النوع من المراقبة والتي عبرت عنها "التقارير" التي كان يكتبها الأبناء ضد آبائهم، والنساء ضد أزواجهن، والأصدقاء ضد أصدقائهم [ وكأن صدى إنجيل متي يتردد في الأرجاء: " فإني جئت لأفرقَ الإنسانَ ضدَّ أبيهِ، والابنة ضد أمها، والكنة ضدَّ حماتها"]!
5.
إنه سقوط شامل في قبضة آلية الخوف التي يشيعها النظام عن طريق مختلف الوسائل العلنية (الراديو والتلفزيون والصحف) أو عشرات الوسائل الأخرى كالمراسيم الحزبية التي توزع في مواقع العمل وفي المدارس والجامعات والإعلانات التي تلصق على جدران المعامل والقاعات الدراسية التي توجه الأنظار إلى هدف واحد لا غير وهو: الولاء، وإلا فإن العواقب وخيمة. طبعاً يكون إرهاب الدولة ضد "الأعداء" مصحاباً دائماً بمكافآت "للأصدقاء".
ومن النماذج الواقعية للملصقات في المعامل والدوائر الحكومية يمكن أن نقرأ:
"أيها المواطن أفضح أعداء المجتمع"!
"أيها المواطن اكشف عن الأشخاص الذين يخرقون قواعد النظام الاجتماعي"!
6.
ومن يقرأ القرآن بتأني وتأمل سيكتشف إن هذه هي نفس الفلسفة "الرقابية" التي يتبعها "كاتب" القرآن. ولا يحتاج المرء إلى الكثير من الأدلة والتنقيب ليكتشف بأن العقائد والأنظمة الشمولية تكاد تستخدم ذات الآليات والأدوات للضغط على الناس. إن الشيء الوحيد المختلف هو مستوى تطور التقنيات وبعض الأساليب المتميزة لكل عصر وثقافة. وقراءة سطحية لبعض سور كتاب محمد من شأنها أن تكشف عن هذا التشابه الرهيب. وهذه أمثلة من "البيانات والمنشورات الأمنية" في القرآن (ومن لا تكفيه هذه النماذج سأكون جاهزاً لإيراد العشرات من الآيات المشابهة):
"وَأَسِرُّوا قَوْلَكُمْ أَوِ اجْهَرُوا بِهِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ" [الملك/13]
"إِنَّ اللَّهَ عَالِمُ غَيْبِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ" [فاطر/38]
"وَلِيُمَحِّصَ مَا فِي قُلُوبِكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ "[آل عمران/154]
وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ" [ المائدة/7]
يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ [هود/5]
وَيَعْلَمُ مَا تُسِرُّونَ وَمَا تُعْلِنُونَ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ" [التغابن/4]
وَأَسِرُّوا قَوْلَكُمْ أَوِ اجْهَرُوا بِهِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ" [الملك/13]
وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ" [البقرة/215]
وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيم" [البقرة/231]
لنرفع الغلاف "الرباني" عن النصوص "المقدسة" ونقرأها بتمعن حتى نرى وجهها الأرضي اللامقدس!
7.
ففي مثل هذه الآيات، ومنها الكثير، يستطيع القارئ المحايد أن يستشف الآليات المتبعة من قبل الدول الشمولية بتشغيل محركات "الرقابة الداخلية" عن طريق زرع جذور الخوف في دماغ المؤمن:
إنَّ الله عليم بكل شيء يحدث وبكل شيء تفكر به.
ومهما صرحتم أو أخفيتم في صدوركم فإنه مكشوف أمام الله.
لا جدوى من أية محاولة للتستر على ما تفكرون به لأن الله قادر على معرفة الغيب لا ما في "صدوركم" فقط، وإنما كل ما يحدث في السماوات والأرض.
فلا مهرب أمامك إلا الطاعة والإذعان والتقوى.
وهو يكرر عشرات المرات عبارة " وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ" وإلى الحد الذي تتحول فيه العبارة إلى معادل للشعارات التي كانت ماكينة الإعلام الهتلرية والشيوعية تنشرها بأشكال مختلفة لكي تقنع المواطن بأن الحزب والدولة تعرف كل شيء. وكما هو الحال في الأنظمة الشمولية فإن مؤلف القرآن لا ينسى المكافآت فالجنات التي تجري من تحتها الأنهار تجتذب كالمغناطيس فضلات الحديد.
- هذه حياة فانية، وتلك هي الحياة الأبدية فاتق الله واربحها وإلا فإن ناراً وقودها الناس والحجار ستكون في انتظارك.
كتاب محمد يزرع في عقول الناس هيئة رقابية من نوع فريد تذكرهم في كل لحظة: إياك أن تنسى قضاء الله وتعاليمه فهو يعرف بما ضمرت القلوب ويدرك ما تنوي عليه.
إنها سياسة تعطيل الإرادات وتكبيل العزائم إلا ما ارتضاه الله وقبله الرسول وكل شيء آخر باطل حتى يوم الساعة. الله يراقب، يعرف دقائق الأمور، يحسب حساب كل خطوة نخطيها، قد قدَّر منذ الأزل ماذا سنفعل وماذا سنفكر!
8.
منذ انتهاء الحرب العالمية الثانية صدرت الكثير من الأعمال الروائية والسينمائية التي تتحدث عن هذا السعي المَرَضِي المحموم لماكينة الدول الشمولية لفرض الرقابة الشاملة على المواطن. لكن رواية "1984" للروائي جورج أرويل التي صدرت عام "1949" ربما تكون في طليعة هذه الأعمال. وليس من الصدفة إن تلهم أفكار الرواية منتجي البرنامج الشهير " Big brother ".
9.
لقد كشفت الرواية بصورة بصرية فذة عن "جبروت" جهاز الشرطة الذي يرى كل شيء ويسمع كل شيء بالمعنى الحرفي للكلمة عن طريق الكاميرات الموجودة في كل زاوية، والتي ترصد وتترصد كل جزئية، وكل تفصيل من تفصيلات حياة الناس اليومية والشخصية، فتتحول هذه الحياة إلى مجرد "ملفات" فيديو في دائرة الشرطة.
فشخصية Big brother رغم خصائصها الفنية، فإنها تعبر أسطع تعبير عن الواقع الفعلي لمساعي القادة الشموليين لكي "يمسكوا بزمام الأمور" ولكي لا يتركوا تصرفات البشر للصدفة أو للمزاج الشخصي.
10.
إنه "الله" المعاصر، وكاميراته هي عيون "الله" التي "تعرف كل ما في الصدور".
في نظام شمولي مثل هذا (سواء كان دولة أو عقيدة دينية) فإن الرسالة التي لا تفارق إعلامها: لا معنى للمقاومة. فإن أية مقاومة لا تجلب إلا البلاء لأصحابها. فالقائد المُلْهِم، والله، وأجهزة المخابرات على "علم بما في الصدور".
وهذا التكرار الممل والمقيت (هو يعلم بما في الصدور) يرسم صورة مأساوية المعالم عن النظام المنشود وعن طبيعته الإجرائية والسياسية والحقوقية: وقد رأيناه في دولة" داعش" الإسلامية. أنها التعبير المباشر والصريح عن مساعي كاتب القرآن. وكل الآراء التي تجعل من "داعش" مساعياً استثنائية للعقيدة الإسلامية وتطبيقاً شاذاً لها لهي آراء دفاعية أدرك أصحابها حقيقة الوجه المخفي للدولة الإسلامية، مثلما رأى الناس في كل مكان. وما عليهم الآن إلا إنقاذ ما يمكن إنقاذه من سمعة كتابهم المجيد!
11.
والآن أتساءل:
ألا تذكركم وسائل الأنظمة الشمولية بشيء نعرفه جميعاً من تجاربنا في " جمهورية الإسلام الديموقراطية الشعبية!؟
ألا تذكركم الدولة الشمولية بالإسلام (الدول العربية هي التعبير المدني عن هذه الدولة)؟
وألا تذكركم المادة الموجودة في جميع دساتير الدول الاشتراكية سابقاً والتي تنص على (أن الحزب الشيوعي هو القوة القائدة في الدولة) المادة الموجودة في أغلب ما يسمى بالدساتير العربية التي تنص على أن (الإسلام هو دين الدولة)؟
وألا يذكركم مبدأ الاسترشاد بوثائق الحزب الشيوعي في مجالات الحياة والقوانين بما تنص عليه الدساتير العربية بكون "الشريعة الإسلامية هي من المصادر الأساسية للتشريع)؟
وألا تذكركم أجهزة الأمن السري بهيئات الإفتاء والمديريات ولجان المراقبة الدينية وهيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر المدعومة من قبل أجهزة الأمن الحكومية؟
12.
فإذا كان كل هذا وكل ما نعرفه عن الأنظمة الشمولية في التاريخ المكتوب لا يذكركم بشمولية العقائد الدينية وما نعرفه عن الإسلام، ليس فقط كتاريخ خبرناه بأنفسنا، وكل ما نعرفه عن التعاليم الإلهية للسيطرة على تفكير الفرد، فإن ذاكرتكم، ولا آسف لذلك، لهي بائسة أشد البؤس!
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق