[1]
في وقت كان يستشعر فيه برودة ظلال بناية السجن المواجهة للساحة [ربما لم يكن يتعدى بعد وقت صلاة الظهر]، استيقظ [أو بكلمة أدق: فتح عينيه] على أصوات جلبة ووقع أحذية ثقيلة على الممر المكسو بالبلاط والمؤدي إلى زنزانته الواقعة في نهاية الممر. ثم سرعان ما سمع صوت حزمة المفاتيح الثقيلة ومحاولة فتح باب الزنزانة الحديدي.
دخل ثلاثة رجال ملثمين بأُمْرَة مدير السِّجن، وهو رجل قصير القامة تبدو على خده الأيمن آثار ندب قديم وقد أُقتطع جزء من أرنبة أنفه، يقبض بشفتيه على سيجارة يتصاعد منها الدخان:
- انتهى وقت النوم، أستاذ!
قال مدير السجن بصوت مشروخ من تأثير التدخين بتهكم وعصبية وخشونة وكأنَّ بينهما عداوة قبلية قديمة من أيام داحس والغبراء [وهي حرب دامت 40 عاماً نتيجة للنزاع على الفرسين داحس والغبراء. ولا يزال العرب، ومن كل عقولهم يفتخرون بفروسية المحاربين!]، رغم المسافة الاجتماعية والروحية التي تفصله عن كائنات مثل داحس والغبراء!
الحق أنَّه لمن دواعي سروره أن يتعامل الآخرون معه كحصان ـ
أو بكلمة أدق شيء (ما) يشبه الحصان. فهذا، على أية حال، شرف هو عاجز حتى أنْ يحلم به. ولكن هذا لا يعني أنَّ الأحلام لا تمرُّ عنوة بخاطره. فهو لم يقرر يوماً أمراً يتعلق بحياته – فهو لم يقرر أن يكون حماراً مثلاً، فكيف يكون بإمكانه أن يقرر ماذا ومتى يحلم؟
بل إنَّه لا يعرف حتى معنى "القرار".
إنَّه كما يقول البعض "مُطِيعٌ بحذف العين!" ( تتضمن العبارة لعباً في الكلمات. فـ"المطيعُ بحذف العين" هو "المُطِيُّ “ من "مَطِيَّة"، أي: الحمار).
والأمر سواء بالنسبة له: حُذِفَ أمْ لَمْ يُحذفْ هذا العينُ اللعين! فَهُوَ هُوَ: أينما حلَّ وأينما رَحَلَ.
فإذ يَّدعون بأن "رب العالمين!"، الرب المفترض الذي سقط الآن من حسابه، قد وَهَبَهُ جسداً وهيئة لا يمكن أن تغيرها الكلمات والأسماء. قد يختلف الأمر بالنسبة للآخرين، وقد يكون حذف هذا "العين" من عَدَمِه يُقَدِّم أو يُؤَخِّر شيئاً بالنسبة لهم، لكنَّ الأمر في حالته لا يعني الشيء الكثير: فنتائج حذف "العين" مساوية تماماً لبقائها. بل هما مترادفان يكاد يحلُّ أحدهما مكان الآخر: فسواء كان مطيعاً بحذف العين أو حماراً فقط، فالأمر سواء – فهو هو: مخلوق من الدرجة الثانية.
[2]
فالحصان، مثلاً، قد يُسمح له بأن يُتَّصَفَ بالجموح والتمرد حتى أنَّ صفة "الجموح" تضفي عليه شيئاً من النبالة والشرف. وإذا ما تَهَكَّم "الخالقُ" على صَوْتهِ أمام عباده فإنَّ لصَهيل الحصان وجلجلته، رغم أنَّ صوتيهما قريبان من بعضهما في الشدة والارتفاع، وقعٌ محبب إلى نفوس الأنس والجن، ولا شكَّ إلى نفوس الملائكة أيضاً!
بل أنَّ للحصان أسماء وألقاباً لا عدَّ لها ولا حصر: فهو المشهورُ والمُنْكَدِرُ والسَّكْبُ والمرتجزُ واللحيفُ والبحرُ والوردُ والمُلاوحُ واللزازُ وغيرها الكثير. بل وللحصان أساليب مشي عدو وخبب ثم تبختر وغيرها تحولت إلى أسماء لبحور الشعر!
أما بالنسبة له، كحمار [أو مطي]، فإنَّ "الجموح" صعب المنال وهو من المستحيلات التي يمكن أن تؤدي به إلى حتفه. فمصيره التراجيدي الحالي لم يكن إلَّا لأنَّه تجرأ على الدفاع عن كرامته وصوته ضد تهكم "الخالق" ولا شيء آخر غير ذلك!
فما الذي كان يمكن "لا سَمَحَ الله" أن يحدث له لو خطرت على ذهنه فكرة جهنمية وهي أن يقرر، هكذا فجأة، أن يجمح!
فلماذا يحق للحصان ما لا يحق له؟!
أهذا عدل عليه القبول به والخضوع له؟
وربما هانَت القضية لو أنَّ الأمر قد اقتصر على امتلاك الحصان هذا الحد من الرفعة والشرف. فالحصانُ قد كرَّمه رسول الخلق بذكره وحمده في أحاديثه، إذ قال بصريح العبارة ومن غير إيحاء أو إمارة:
-" الْخَيْل مَعْقود فِي نَواصِيهَا الْخَيْر إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَة"!
ولهذا لم يتبق له غير الصفة الوحيدة التي سمح له بها "الخالق" الرحيم هي: العناد!
ولهذا لن يشفع له!
[3]
ولأنَّهُ تعلَّم الدرس ولم يعد يطرح الأسئلة، فإنه الآن يميل إلى قبول هذه الصفة على مضض رغم أنَّه عاجز عن أدراك مسوغاتها. فهو كان يعيش دائماً متواضعاً و"يمشي الحيط الحيط ويقول يا ربِّ الستر!"، وهو يسمع الكلام ويطيع الأوامر ويرفع الأحمال ما خفَّ منها وما ثقل، لا يردَّ إهانة مهين ولا يحتج على ظلم ظالم، يطيع طاعة عمياء حكم الولي ويردد صباح مساء: "أنا العبد الضعيف الذليل الفقير المُهْمَل المطيع الصابر، عفيف العين واللسان، الشاكر لحكم الله في السراء والضراء، احتمل الأذى ولا اعتراض لي على ما يحلُّ بي، لا اختيار لي لما أحب أو قرار لي لما أكره"!
فكيف يكون "عنيداً" والعناد من صفات المتجبر صاحب المُلك والجاه!
إنَّهُ، وله من الحق ما يكفي لكي يتساءل، أبْعَدُ خلق الله عن العناد وأقرب إلى الطاعة من جميع العباد!
فهو قد يتسمر في مكانه ولا يتحرك لحظة لكي يسترد أنفاسه أو حين تجول في خاطره فكرة فيقف لحظة لتأملها أو يرى بهاء الخالق لكي يملأ صدره بالإيمان والامتنان له، لكنه لم يكن وما كان بإمكانه أن يكون عنيداً يوماً أمام حكم الله!
هو لم يفعل شيئاً غير أن قرر أن يؤذن [أو ينهق والناس تنهق ليل نهار] بصوت عال، بعض الشيء، حتى يقول للناس بأن صوته لا يختلف عن بقية الأصوات!
ومع ذلك فقد أذَلَّه "ربُّ العالمين" وأطاح بكرامته.
ولهذا لقد "مات " هذا الرب ولم يتبق غير دعاء:
آمين!
[4]
الزنزانة:
كانت الزنزانة شبه مظلمة، إذْ لم يكن يضيئها غير الضوء المتسلسل من هوَّة ضَيِّقَة في أعلى الجدار المطلِّ على ساحة السجن. وكان محيط الزنزانة يغرق في الظلام ومن الصعب على المرء، أو أيِّ كائن آخر،
التأكد فيما إذا كان هناك نَزِيلٌ آخرُ غير صاحبنا.
على الأرض بجانب الحائط ثمة حصير قديم مصنوع من سعف النخيل وإناء معدني (من الألمنيوم) قديم متآكل، ربما يستخدم للطعام والماء وأمور أخرى على حد سواء[ولهذا فإن النافذة أو "الهوة" المفتوحة لم تكن كافية لتهوية الزنزانة من رائحة البراز]، ولا شيء آخر.
هي غرفة مستطيلة لا يتجاوز عرضها المتر والنصف وطولها المتران، مظلمة جرداء باردة مهملة تقع خارج المكان والزمان والتاريخ، تقع في بناية لا وجود لها على خارطة المدينة، من غير رقم أو يافطة يُشير إلى وظيفتها والجهة المشرفة عليها، يحيط بها سور عال من الطابوق ومدخل حديدي صدأ.
هي هناك وليس هناك.
لا يعرف بها غير مَنْ هم فيها.
لا تثير اهتمام المارَّة في الشارع المُترب [ثمة بقايا هنا وهناك من أسفلت قديم] المحيط بالسجن وعلى مسافة مئة متر يقع جامع قديم متهدم ترتفع منه منارة سيئة البناء مطلية بطلاء أبيض يلوح من تحته آثار طلاء أخضر قديم.
أمَّا في مساحة الأرض التي تمتد أمام بناية السجن في الجانب الآخر من الشارع الترابي فثمة مقبرة للسيارة القديمة والسكراب تحرسها كلاب مربوطة عند المدخل من غير أنْ تلوح أثار لأشخاص، أو عمال، أو حُرَّاس.
تحت شمس أواخر تموز المحرقة كان يتلظى كل شيء:
الحديد والطابوق وأرضية الشارع الترابي والهواء وتكاد أرواح البشر والحيوانات والملائكة والجن تزهق من شدة الحرِّ.
لا أشجار تخفف وطأة الحر ولا ظلال لبنايات عالية يمكن للناس أو الكلاب أن تلتجئ إليها.
إنَّها جهنم الموعودة!
مرحبا بالجميع!
[5]
تأملات حمارية حول التفكير والوجود:
في مثل هذه الظروف قد يحلو لرواة القصص القول "بأنه حين سمع صوت مدير السجن الأجش يجلجل في أرجاء الزنزانة: “انتهى وقت النوم يا أستاذ!" قد نهض صاحبنا من السرير متثاقلاً بعض الشيء وعدَّل من وقفته منتظراً أوامر أخرى,
غير أنَّ هذا لم يحدث وما كان له أن يحدث. إذ أنَّ صاحبنا كان واقفاً مطأطأ الرأس وكأنه رأسُ دمية يتدلى من خيط غير مرئي.
لم يكشف عن أي نوع من المشاعر الخارجية ولم ينبس ببنت شفة، بل حتى أذناه الطويلتان كانتا تتدليان كرأسه بخشوع كخشوع المتعبد أمام قبر إمام أو ولي مصطنع!
لم يكن يبدو عليه الخوف أو القلق.
كان هادئاً، أو هكذا كان يبدو.
الحق أنَّه هادئ الطبع، "دمث"، لا يُحِبُّ أنْ ينشغل الأخرون به ولا ينتظر منهم عبارات الإعجاب أو أنْ يربتون على كتفه تعبيراً عن الودِّ والرضى.
هو راض عما هو فيه؛
لا يسعى إلى كسب العطف على حاله ولا الحصول على مكافأة على عمله.
هكذا كان دائماً، وهكذا هو الآن في لحظاته الأخيرة.
هل كان يفكر؟
[6]
من الصعب القول ذلك.
وليس السبب فيما يشيع عنه بأنه لا يحب التفكير أو أن التفكير ليس من صفات جنسه.
هو لا يفكر لأنه ليس من النوع الذي يتفق مع مبدأ ديكارت "أنا أفكر، فأنا موجود"! إنَّه لا يجرأ على الادعاء بمجادلة الفلاسفة، ناهيك عن رجال الدين، لكنه يعرف من التجربة المُرَّة بأن الوجود أمر ملتبس للغاية.
ماذا يعني الوجود بالنسبة له حين يكون غائباً عنْ كُلِّ ما يسم الوجود المعاصر حتى لقبوه غائباً؟
فهو من غير وثائق رسمية تثبت تاريخ ولادته وعنوان أقامته ومهنته!
وهو خارج قوائم الانتخابات!
بل هو ممنوع من السفر واستخدام وسائط النقل البرية والبحرية. أما إمكانية السفر بالطائرة فهي من المستحيلات الوجودية!
إنَّه يعملُ ويكدُّ أكثر من أيِّ فرد في المجتمع. لكنه خارج المجتمع! فالأخير يتكون من مواطنين يخضعون للقوانين السَارِيَة في البلاد ويحق لأكْسَلِ الكُسَالى وأكثرهم تفاهة وانحطاطاً أن يقرر مصير البلاد، على الأقل شكلياً - بالتصويت واختيار ممثلي البرلمان.
أما هو فلا حقوق له ـ
عليه واجبات لا يمكن عدها ولا حصرها ولكن من غير حقوق. فالحقوق التي تقرها الدولة هي لصالح أفراد المجتمع [إن استطاعوا الحصول عليها!] وهو ليس فرداً من هذا المجتمع.
ولهذا فَقَدْ فَقَدَ حاسة التفكير تدريجياً حتى وصل حَدَّاً أصبح التفكير يُشَكِّلُ خطراً على حياته. بل أنَّ هذا الخطر أصبح واقعاً لا مهرب له ولا مناص منه. وهذا ما كانت تردده زوجته دائما وأبداً:
لا تفكر، فالتفكير بلاء!
فهذا هو الدرس:
التفكير يؤدي إلى الشكِّ، والشكِّ يؤدي إلى السؤال، والسؤال يؤدي إلى الاعتراض والاعتراض يؤدي إلى الهاوية، وهذا هو منطق:
"أنا أفكر، فأنا موجود"!
هو لم يفكر ولم يرفع صوته اعتراضاً إلَّا مرَّة واحدة وها هو ينتظر حتفه في زنزانة تقع في معتقل لا وجود له على الخارطة ونهاية لن يعرف بها أحد غيره:
إنه الآن هنا وغداً سيكون هناك!
[7]
ولأنَّ انتظار مدير السجن قد طال أكثر مما يحتمله وأخذ رجال الشرطة الملثمون يتململون في أماكنهم كتلاميذ يتنظرون جرس المغادرة فقد قرر رفع رأسه على عادته ببطء وتؤدة.
حينذاك رآهم للمرة الأولى ينتصبون أمامه كتماثيل من الحجر.
أجال بنظره في أرجاء الزنزانة حتى وقع نظره على الهوة الصغيرة في أعلى الجدار المطل على الساحة.
- لابد أنَّ وقت الصلاة قد حان!
قال صاحبنا مع نفسه وكأنَّ "الصلاة" هي همه الوحيد ومشكلته الأخيرة!
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق