منع

مَبْدَأُ تَشيخُوفَ" الدُّرَامِي وعبارة "بسم الله الرحمن الرحيم"!

[الكاتب الروسي أنطوان تشيخوف]

تمهيد:
من ضمن ملاحظاته في أثناء بروفات إحدى مسرحياته "طائر النورس" عَلَّقَ الكاتب والمسرحي الروسي أنتون بافلوفيتش تشيخوف (1860 ـ 1904 ) على وجود بندقية الصيد المعلقة على جدار الغرفة في اللوحة الأولى من المسرحية كالتالي:
ـ "إذا ما ظهرت بندقية الصيد في اللوحة الأولى من المسرحية فإنها لابد وأن تُطلق رصاصة في اللوحة الأخيرة"!
لقد تحول هذا التعليق منذ ذلك الوقت إلى واحدة من أهم المبادئ في المسرح العالمي والمتعلقة بأهمية عناصر الأكسسوار المتواجدة على خشبة المسرح وعدم جدوى وجود ما لا معنى أو ضرورة له من الناحيتين الدرامية والدلالية. فخشبة المسرح ليست مشجباً للملابس ويجب إلا يتم التعامل معها ببساطة ولا مبالاة.
1.
إذا ما علَّق اليهودي على باب بيته نجمة داود، والمسيحي الصليب، والمسلم الهلال (أو أي رمز إسلامي آخر) فإن الأمر، ربما، لا يتعدى كونه محاولة "للإعلان" عن انتمائهم الديني (بغض النظر عن هدف هذا الإعلان)، ولا ينبغي أن يجد المرء في الأمر أية غضاضة، رغم أنه نزوع لا يستجيب لحياتنا المدنية المعاصرة ولا ضرورة له. ومع ذلك فهو أمر شخصي ولا يفترض منَّا أن نذهب بعيداً في التفسير والتعليل.
2.
ولكن حين يبدأ مؤلفون يهود في مجالات الفلسفة والعلوم والثقافة والسياسة كتبهم مثلاً بعبارة " اسمع يا إسرائيل: الربّ إلهنا، هو ربّ واحد، فأحبب الربّ إلهك بكلّ قلبك وكلّ نفسك وكلّ قوتك. ولتكن هذه الكلمات التي أنا آمرك بها اليوم في قلبك"، والمسيحيون بعبارة "باسم الأب والابن والروح القدس" والمسلمون بعبارة "بسم الله الرحمن الرحيم"، فأن الأمر سوف يختلف جذرياً عن حالة الأشخاص المتدينين العاديين وما يعلِّقون على أبواب بيوتهم!
إن مثل هذا "التقليد" سوف يخضع لا محالة لـ"مبدأ تشيخوف" الدرامي: نحن الآن أمام عمل واع من قبل المؤلف يعبر من خلاله (وبغض النظر عن المجالات العلمية التي يكتب فيها) عن منطلقات فكرية/دينية/عقائدية وإنَّ ما سينتهي إليه من خلاصات وأحكام وقضايا قد تم بلورتها منذ الصفحة الأولى: حين يبدأ الكِتَابُ بعبارة "بسم الله الرحمن الرحيم" فإنه سينتهي لا محالة بـ "تم الكتاب بعون الله تعالى"!
إنَّها طلقة الخلاص من العقل!
3.
إنه لا شكَّ أمر ينقض المنطق والمنهج العلميين في أية عملية بحث عقلية. أنْ ينطلق الكاتب في الحديث عن "نظرية الكم" أو "مبادئ الحريات المدنية"، أو "جماليات النحت" وغيرها من الموضوعات الممكنة من عقيدة دينية واضحة المعالم حددها منذ الصفحة الأولى فإن كتابه منذ الصفحة الثانية إلى نهايته يفقد "قيمته"، إن كان له قيمة؛ ويفقد "معناه" إن كان له معنى؛ ويفقد "مصداقيته العلمية" إن كانت له مصداقية!
وعندما تكون هذه "المظاهرة الدينية" واعية ومدركة الأهداف والنتائج فإن ادعاء الانتماء إلى "البحث العلمي" هو ادعاء سخيف ومضحك.
4.
فهل يتم عملياً مثل هذا التقليد؟
إن الواقع يكشف إن مثل هذا التقليد لا يسير عليه غير المسلمين ـ والمسلمين وحدهم! والأمر سيان: سواء كانوا من "المتحزبين" و"المسيسين"، إسلامياً (بغض النظر عن التسميات والألقاب والطوائف والفِرق)، أو يدعون أنفسهم بأنهم من "محبي التفكير العلمي" و"مناصري حقوق الإنسان" و"حرية الرأي"! إن هذا الادِّعاء لا يستقيم منطقياً.
5.
لماذا؟
الأمر بسيط للغاية:
كيف تَكْتُبَ عن "قوانين الفيزياء" مُنْطلِقاً من إيمان وعقيدة والتزام ديني؟
كيف يمكن أن تجمع "تحت إبط واحد" قوانين الكم والنسبية من جهة والبسملة وكأنك عجوز رأتْ صورتها لأول مرة بالمرآة (ربما في هذه الحالة ستقول العجوز أيضاً أعوذ بالله من الشيطان الرجيم)!
كيف يمكن أن تؤمن بكون هناك "خالق" للكون وأنت تتحدث عن القوانين الطبيعية للكون؟
كيف تؤمن بـ"معجزات" تلغي قوانين الفيزياء وتكتب بـ"قناعة" عن قانون حفظ المادة؟
كيف تنطلق من عقائد ترفض الفنون البصرية رفضاً قاطعاً وتنادي بعقيدة "البيوت التي تقنتي لوحات تشكيلية لا تدخلها الملائكة "(!) وأنت تكتب عن جماليات الأعمال الزيتية لعصر النهضة؟!
إن هذا عبث يصدع الرأس ويبدد رغبة الكلام!
فللغة تَبَعات. وللِّسياق معانٍ لا تقولها الكلمات. لا يمكنك أن تصدر كتباً وكأنك تلعب "الطاولة" في إحدى مقاهي المحلة!
إن "السَّبحلة"[1] و"البَسْمَلَة"[2] و"الحَوْقلة"[3] و"الهَيلَلَة"[4] (وغيرها من الكلمات على وزن "فعللة" . . .) هي مفاهيم محددة وتعكس تصورات محددة عن الإنسان والعالم. وحين تستخدمها بقناعة فهذا يعني أنك تنتمي إلى "نظام عقلي" بعيد كل البعد عن "الأنظمة العقلية" العلمية.
واذا كنت تكتبها عن غير إيمان وقناعة فأنت كذَّاب مداهن! فلماذا تبدأ الكتابة بها إذن؟
6.
إن هذه لصورة من صور الهوس العربي بالدين!
الهوس بترديد أسماء الله ورموزه وكأنَّ هناك من يراقب الكُتَّاب عن كثب ليرى هل يبدأ الكِتَاب بالسملة أم لا!
إنه هوس يبدد ضياء العقل ويستنفد طاقته.
هو سير في الأنفاق المسدودة وكأنه آلة "الزمن" التي لا تعمل إلا بالعودة إلى الوراء ـ العودة إلى "خير القرون"!



[1] القول "سبحان الله"!
[2] القول "بسم الله الرحمن الرحيم"!
[3] القول "لا حول ولا قوة إلا بالله"!
[4] القول "لا الله إلأا الله"!


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

أحدث المقالات:

كتاب: حكاية الحمار العجيبة الذي قرر أن يكون مؤذناً!

المواضيع الأكثر قراءة:

◄ أربعة مقالات حول: خرافة "الرحمة" في الإسلام!

هل كان آينشتاين مؤمناً؟

مقالات عن الشيعة: اساطير التاريخ وأوهام الحاضر