1.
من غير المجدي، بل ومدعاة للشعور بالعبث، مناقشة قضية "الإجماع في الفقه الإسلامي" من غير الأخذ بنظر الاعتبار المنطلقين التاليين:
الأول: رفض المحاججة الفقهية لقضية "الإجماع":
يمكن تصنيف الكُتَّاب المعاصرين الذين تصدوا لنقد الإجماع إلى مجموعتين أساسيتين اثنتين، بغض النظر عن احتمالية العثور على تمايزات من طبيعة مختلفة داخل كُتَّاب كل واحدة من هاتين المجموعتين[1]:
المجموعة الأولى تقوم بنقد "قضيَّة الإجماع" انطلاقاً من اختلاف في القاعد الفقهية: أي أن قاعدة النقد هي "فقهية" من حيث المبدأ. وهذا تناقض عميق وانتفاء للجدوى الفكرية والعقلية لمثل هذا النقد. لأن هذا النقد لا يعني غير نقد الآخر باستخدام ذات الأدوات العقائدية/الفقهية/ الدينية للآخر (هي في الحقيقة أدوات واحدة وذات منشأ واحد ومنطق لاهوتي واحد). وهذا نقد فاسد لا يستقيم مع متطلبات المنطق والنقد العلميين.
أما المجموعة الثانية، فإنها من الناحية الشكلية لا تنطلق في نقدها من اختلاف في القاعدة الفقهية، كما هو الحال في المجموعة الأولى. وكما يبدو، من خلال بعض العناصر المنهجية، بأن كُتَّابها يفكرون من خارج الالتزام الطائفي والديني. غير أن مشكلة هذه المجموعة، وهي بذلك لا تلبي حاجة النقد العلمي، هو استخدام تناقضات المدارس والاتجاهات الفقهية وتستشهد، هي الأخرى، بآراء "فقهاء" بغض النظر عن حقيقة كون هؤلاء "الفقهاء" يرفضون فكرة الإجماع بالكامل أو يتمايزون بقليل أو بكثير عن مؤيدي "الإجماع" الكامل. ولهذا نراهم يستندون بنقدهم إلى "كتب الفقه" الإسلامية! وهذا أمر له مساوئ منهجية وعقلية على مستوى العمل الفكري المضاد للتفكير الديني من جهة، ومن جهة أخرى فإن "نقد اتجاه فقهي معين" يتحول إلى "أداة إعلامية" لاتجاهات فقهية أخرى هي في نهاية التحليل تصبُّ في مجاري اتجاهات التفكير الديني/ الفقهي/الإسلامي السلفي بعامة[2].
الثاني: رفض المنطلق اللاهوتي الذي تستند إليه قضية "الإجماع":
ولهذا فإنَّ كُتَّابَ كلا المجموعتين يستندون في محاججاتهم على "الفقه الإسلامي" وعلى التراث اللاهوتي الإسلامي. ويبدو "الإجماع" كمجرد "مشكلة فقهية" وفي إطار اللاهوت الإسلامي لا قضية تتعلق برفض التفكير العقلي لها (سواء تم نقضها كلياً أو جزئياً، وسواء تم وضع اشتراطات صارمة أو متساهلة). ولأنها قضية لاهوتية فإن مناقشتها لا تتم بأدوات لاهوتية، بل بأدوات عقلية من خارج النظام اللاهوتي.
2.
إنَّ قضية "الإجماع" ليست مجرد "قاعدة فقهية" لإصدار الأحكام، وبالتالي يمكن الاعتراف بها أو لا (أو وضع شروط صارمة لتطبيقها أو لا). "الإجماع" أداة لاهوتية سلطوية سُنِيَّة المنشأ تسعى إلى فرض الأحكام السَّنِيَّة في مجالي الدين والدولة (بسبب سنيِّة الدولة العربية) من جهة، وهي قاعدة لاهوتية منافية للعقل من جهة أخرى. وهي لا تخرج عن إطار فكرة الإجماع/الاتفاق في أي مجال من مجالات الحياة. وإذا صَحَّ الإجماع في مجال من مجالات الحياة المختلفة فإنه، لا شكَّ، يَصُحُّ التفكير في "الإجماع اللاهوتي" والتفكير في شروطه. إلَّا إن فكرة الإجماع في شروط الحياة المعاصرة، من حيث المبدأ، هي فكرة مناقضة لحرية الرأي ولمبدأ التعددية على حد سواء. بل وحتى في العلوم الطبيعية فإن "إجماع" العلماء يكون دائماً إجماعاَ مشروطا بالكثير من العوامل والظروف. ولهذا فإنَّ "الإجماع" الديني يرفضه المنطق العقلاني جذرياً، وهذا ما سنحاول عرضه، كما إنه خرافة من بين مئات الخرافات الفقهية.
3.
أما ما يتعلق بالشيعة فإن موقفهم من "قاعدة الإجماع" تختلف جذرياً، لكنه هو الآخر يستند إلى منطق فقهيٍّ/لاهوتيٍّ (وهو في الحالة المعنية ـ لاهوتي شِيعِيٍّ). فمن حيث المبدأ ترفض الشيعة "الأحاديث" المؤَسِّسة لمبدأ الإجماع كالحديث الذي يقول: لا تجتمع أمتي على خطأ"[3]. ومن ضمن تعاليل ابن المطهر الحلي في "تهذيب الوصول إلى علم الأصول" (وهو من المصادر المعتمدة عند الشيعة)، لهذا الرفض بكون "وصف الأمة بالعدالة يستلزم وصف كل واحد بها، وهو باطل إجماعاً". وكما يرى محمد جواد مغنية (شيعي) فإن الإجماع حجة إذا كشف عن رأي المعصوم، وعليه لا يكون الإجماع دليلاً مستقلاً، بل يدخل في السنة[4]، وتحقيقاً لرأي الحلي بأن: "الإجماع إنما هو حجة عندنا لاشتماله على قول المعصوم، فكل جماعة ـ كثرت أو قلت ـ وكان قول الإمام في جملة أقوالها فإجماعها حجة لأجله، لا لأجل الإجماع"[5]. كما يرى بوضوح فإن منطلق الشيعة هو الآخر فقهيٌّ/لاهوتيٌّ ولا ينفعنا في إطار نقد مبدأ الإجماع.
وَلَكِنْ، ولتكن هنا "لَكِنْ" بالقلم الأسود العريض، هل يوجد إجماع في حياتنا الواقعية؟
هل ثمة تبرير عقلي ومنطقي يمكن أن يؤسس لقيام الإجماع من حيث المبدأ في أية قضية من قضايا الحياة؟
هذا ما نريد البحث عنه والنظر فيه لا انطلاقاً من اللاهوت الإسلامي، بل من منطق العلم وقوانين العلم التي تشكل قاعدة لحياتنا الفكرية والثقافية والعقلية، بل وحتى النفسية.
_______________________________________
[1] لأغراض منهجية محضة، سوف نتغاضى عن هذا التمايز وسنحاول باختصار التطرق إلى ما يميز كُتَّاب كل مجموعة عن الأخرى. فهدفنا الرئيس هنا هو تحقيق المنطق العام لكتاب كل مجموعة.
[2] من المؤكد أن هناك مجموعة أخرى ثالثة تتضمن كُتَّاباً يقعون خارج هذين الفئتين ومن الممكن أيضاً أن يتفق كل واحد منهم في بعض المنطلقات الفكرية والعقلية مع واحد أو بعض الكتاب الآخرين أو يختلف معهم في ذات هذه المجموعة. وسنتطرق إلى آراء هؤلاء في الأجزاء الأخرى القادمة وحيث تتطلب الأمر.
[3] ابن المطهر الحلي، تهذيب الوصول إلى علم الأصول، لندن 2001، ص 204
[4] أنظر: محمد جواد مغنية، الشيعة في الميزان، بيروت (من غير تاريخ)
[5] ابن المطهر الحلي، مصدر سابق، ص 211
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق