1.
ليست ثمة علاقة مباشرة وأتوماتيكية ما بين اللغة والحقيقة. غير أن اللغة العلمية هي لغة لا تحتمل إلى حد كبير التورية والمجاز والمحسنات اللفظية وهي تسعى بوعي شديد إلى تجنب المجاز والتورية بقدر الإمكان وخلق توازن فعال ما بين اللغة والحقيقة، حتى يبدو وكأنَّ التعريف العلمي الصحيح لا يحتمل إمكانية التغيير إلَّا بدرجات طفيفة.
وهذا ما لا نجده في اللغة الدينية عموماً، والإسلامية خصوصياً، التي غالباً ما تسقط في منطق العموميات والتعاريف "الفقهية" الملتوية للأشياء والبلاغة الفارغة.
وهنا يلعب "التكرار" دوره كعباءة يحجب عنا المعنى الحقيقي للكلمات والمصطلحات التي تدور على لسان الجميع وكأنها مفاهيم علمية لا تقبل النقاش والشك.
ومن هذه الكلمات التي فقدت معناها (أو بالأحرى أُفقدت المعنى) هي: الإصلاح – وبكلمة أدق وجودها في عبارة "إصلاح الإسلام"!
2.
الإصلاح:
فعل أصْلَحَ – والاشتقاقات المرتبطة به، سواء بالعلاقة مع السلوك أو الأفكار أو الأشياء المادية، تشير إلى إعادة الشيء إلى الوضع السوي السابق أو الحالة المثلى له بعد حدوث خلل في ذلك الوضع أو تلك الحالة.
فالإصلاح إذن عملية "ترميم" و"تصليح" لشيء يعاني من خلل أو تلف أو استهلاك لإحدى مكوناته. فيتم ترميمه وإصلاحه وإعادته لحالته القديمة السوية.
والإسلام لم يكن في يوماً ما وضعاً أو سلوكاً أو شيئاً سوياً يستحق المحافظة عليه أو دعم وجوده كما هو. فقد كان ديناً عَكَسَ نشاط "نبيٍّ" هو مجرد واحد من بين عشرات "الأنبياء" الذين ظهروا في الجزيرة العربية. ولا فرق بينه وبين "الأنبياء" الآخرين غير أنه استطاع بحد السيف ومن ثم أنصاره بذات السيف القضاء على جميع الأنبياء الآخرين المنافسين بقوة السلاح والقتل - وقد كان آخرهم مسلمة الحنفي.
والإسلام عقيدة دينية كانت تعبر عن شروط اجتماعية واقتصادية بُطلت وكفتْ بعد أقل من قرن.
ولهذا فإن الإسلام والعقائد الإسلامية كانت ظاهرة تاريخية استحالت الآن إلى عقبة كبرى أمام التطور الثقافي والاجتماعي والاقتصادي – بل هي الآن سبب حاسم للتخلف الشامل للشعوب الإسلامية.
ويمكن القول من غير مبالغة أن جميع الأديان القائمة الآن قد انسحبت من حياة الدولة والمجتمع واكتفت بكونها عقيدة دينية لها أنصارها ويمارسون طقوسهم في المعابد المخصصة لذلك. غير أن هذا الوضع لا ينطبق على الإسلام.
فما الذي يمكن "إصلاحه" في هذه العقيدة؟
وإذا كان ثمة شيء يمكن "إصلاحه" فمن هو المسؤول عن هذا "الإصلاح"؟
3.
التحديث:
ولم يبق أمامنا غير مفهوم "التحديث".
إنَّ الحديث عن قضية "التحديث" في عام 2021 يستحيل إلى مفارقة مثيرة للسخرية والعبث التاريخي!
فقد مرت الفرصة التاريخية الذهبية والتي استثمرتها الكثير من المجتمعات وقد كان على المسلمين استثمارها والقطيعة مع قرون التخلف وثقافة أصبحت خارج التاريخ. وبدلاً من عملية التحديث الديني والثقافي والاجتماعي فقد أهتم المسلمون باستعادة كل رموز التخلف التاريخي – ثقافة وعقيدة القرون الثلاثة الأولى وكأن الزمن كان ولا يزال ثابتاً في مكانه!
بل أنهم استعادوا ثقافة التوحش بأبشع صورها وقاموا بنشرها بديلاً عن حاجات المجتمعات إلى الحداثة والتطور.
الآن وبعد أنَّ فوت المسلمون على أنفسهم فرصة الدخول في عالم الحضارة المعاصرة؛ وبعد أن حرقوا كل قوارب النجاة لعبور الماضي إلى الحاضر، فإن عملية التحديث لتبدو مهمة خرافية ومستحيلة.
وإذا يعتقد مفكر مسلم مثل محمد أركون بأن الأحداث السياسية الخارجية والداخلية والاجتماعية وظهور الحركات الدينية وأنظمة القمع القسرية "تجعل اليوم كل محاولة لتحديث الفكر الإسلامي وتوحيده شيئاً بعيد المنال، إن لم يكن مستحيلاً"[1] فإنه لشاهد على ما آل إليه الإسلام والطريق المسدود الذي وصل إليه.
4.
والسؤال الذي يطرح نفسه الآن: وماذا بعد؟
لقد أشرت في موضوعي " نهاية الإسلام [1]: كلُّ منظومة قابلة للعطل - ولهذا فإنها ستعطل!" إلى انهيار حضارات وأنظمة ودول وأحزاب وهيئات وتكتلات وأديان ويعود هذا الانهيار إلى سببين أساسيين مرتبطين ببعضهما بعلاقات داخلية:
السبب الأول: هو انهيار الأسس التكوينية الداخلية التي تستند إليها كل هذه التشكيلات والكيانات السياسية والدينية والاجتماعية. فهي مبنية على افتراضات ورغائب ومصالح داخلية وعقائد غيبية لم تعد بإمكانها أن تكفي لقيام هذه الكيانات.
أما السبب الثاني: فهو أن التعارض ما بين وجود هذه الكيانات ومتطلبات التطور الثقافي والاقتصادي والاجتماعي للشعوب قد وصل حداً لم يعد بالإمكان تذليله.
وهذا ما يحدث الآن مع الإسلام.
فقد وصل إلى نهاية طريق عقيم من التطور. والمسلمون الآن أمام خيارين لا ثالث لهما:
إما أنْ يتمادوا في رفضهم لقوانين التاريخ والحياة ويقوموا بتصعيد مارد الإرهاب وتصعيد تطبيق الأيديولوجيا الشمولية إلى حدودها القصوى؛ وإما أنْ يدركوا بأنَّ رفضهم لمنطق التطور سوف يؤدي بهم إلى الهاوية وأنَّ عليهم التكيف مع الزمان والتاريخ وفي هذا التكيف خلاصهم.
5.
هذا هو مفترق الطرق أمام المسلمين:
فهل سيختارون الحل العقلاني والبراغماتي أمام حلول التمادي بالخراب الشامل والانهيار الداخلي البطيء؟
إنَّ يأسي من قدرة المسلمين على اختيار الحل العقلاني بمفردهم وبمحض إرادتهم لهو أضعاف يأس محمد أركون في إمكانية تحديث الإسلام!
كيف يمكن إذن الخروج من هذه المحنة التاريخية؟
إنَّ تطور المجتمعات العلمانية والديمقراطية قد قدمت ولا تزال تقدم لنا الحلول الممكنة العقلانية. وليس ثمة بديل عن الحل العلماني: فصل الدين عن الدولة.
هذا هو "الكود" التاريخي الذي سوف يفكُّ مفتاح الطريق المسدود أمام الإسلام. فإنَّ وقائع التاريخ الإسلامي منذ نشأته ووقائع الدولة العربية في القرن العشرين تكشف بما لا يقبل الشكَّ أنَّ مصدر بقاء الإسلام هو: سلطة الدولة. فهما مرتبطان بعلاقة تكافلية متبادلة symbiosis ولا يمكن فصل عراها بالكلام والأماني. وإنَّ انفصال المؤسسة الكهنوتية (السنية والشيعية) انفصالاً بنيوياً حاسماً عن مؤسسات الدولة إدارةً وتشريعاً وسياسةً هو الطريق المفتوح أمام "تحديث الإسلام" ولا يمكن مثل هذا "التحديث" طالما لا تستشعر المؤسسة الدينية الحاجة إلى هذا التحديث.
6.
الخروج من الدين:
إن تصورات موريس غوشيه في "الدين في الديموقراطية" عن طبيعة وبنية الحل العلماني مثيرة للاهتمام وتلقي الضوء على جوانب هامة من الحل العلماني التطبيقي في الدول الديموقراطية.
تعني العلمانية، بالنسبة لغوشيه "خروجاً من الدين". وهو يرى بأن الخروج من الدين في الدولة الديموقراطية العلمانية "لا يعني التخلي عن المعتقد الديني، وإنما الخروج من عالم يكون الدين فيه بحد ذاته مُنَظِّماً بنيوياً، يوجه الشكل السياسي للمجتمعات ويعيِّن البنية الاقتصادية للرباط الاجتماعي". [2] فـ"الخروج من الدين" هو من حيث المبدأ ليس رفضاً للدين وأقل ما يكون حجباً له، بقدر ما هو الانتقال إلى شكل سياسي وتنظيم جماعي لم يعد للدين أي دور في تحديدهما أو اشتراط طبيعتهما.
7.
ويرى موريس غوشيه بأن المَلَكِيًّة كانت قمة الهرم وهي النقطة الواصلة ما بين السماء والأرض. وعندما خلع المجتمع المَلَكِيًّة عن قيادته وشرع في أرساء نفسه كمصدر لكل سلطة فإنه عملياً قد قام بخلع الدين. فما هي المَلَكِيًّة في الحقيقة، كما يتساءل غوشيه إن لم تكن حشداً من الدين ذا وجه سياسي؟
وهذا ما يمكن رؤيته بوضوح في تاريخ الخلافة والدول الإسلامية عبر العصور حتى الآن. وإذا ما ظهرت الدولة العربية "الجمهورية" بالاسم فإنَّ "مكانة الملك " لم تكن شاغرة بأي حال من الأحوال.
لقد احتل "رئيس الجمهورية" العربية عملياً "وظيفة" الملك الدنيء المتشبث بالسلطة حتى الموت داعماً مكانته هذه عن طريق دستور مهلهل (آخر دستور للحبيب بورقيبة قام بتخليده كرئيس للجمهورية حتى آخر حياته!). فهو قد بقي رئيساً للدولة متمتعاً بامتيازات الملك "مصون وغير مسؤول “حتى نهايته وجوده الثقيل على الأرض: إما بالموت الطبيعي بسبب العمر أو الحالة الصحية، أو بالاغتيال. ولم يتم الخروج عن هذه القاعدة إلا نادراً جداً.
إن الأمر يتعلق برأس للدولة فوق الجميع وفوق القانون. تَسَلَّح بالجيش والشرطة وأجهزة القمع السرية والعلنية والمؤسسة الدينية. فهو بحاجة إلى أيديولوجيا للأوهام – ومن غير الدين يمكن أن يلعب هذا الدور؟
فالقوة الغاشمة مهما كانت صالحة لفرض الإرادة فإنها بمفردها ستكون عاجزة عن تحقيق أهدافها.
والدين يوفر للَمَلِك القديم والمَلِك الجديد "السلطة الروحية" ولهذا فإن عليه شراء المؤسسة الدينية المستعدة للشراء، أو كما يسميهم محمد أركون "العلماء الموظفين المعَّينين رسمياً لتسيير شؤون التقديس في المجتمع" [3].
8.
إذن، بإسقاط "الخليفة والسلطان والإمام" من جميع الأنواع والموديلات الذين حولوا أنفسهم إلى ظل الله على الأرض وعندما يتم إسقاط ما تبقى منهم في شخص الملك العلني والمستتر، فإن الله سيبقى من غير ظل!
فظل الله هذا - هو الذي كان النقطة الواصلة ما بين السماء والأرض. وعندما يسقط هذا الظل فإن الأرض ستبقى من غير سماء.
ولكن كيف يمكن خلع الملك العلني والمستتر (رئيس الجمهورية) وإعادة السلطة الأرضية للمجتمع؟
إن الحل هو الديموقراطية!
بل هو الحل الوحيد ليس فقط لخلع السلطة التي كانت تستند إلى الدين وإنما إعادة السلطة إلى الأرض وإقامة تشريعات تستجيب لقوانين الأرض وحاجة الناس اليومية إليها.
هذه هي السلطة التمثيلية، وبتعبير غوشيه، هي السلطة التي "ليس لها من كُنْهٍ سوى ما تمُدَّها بها رَعِيَّتَها" [4].
إنَّ فصل الدين عن الدولة والدولة الديموقراطية الحقة:
هما الطريق المفتوح أمام المجتمعات العربية المعاصرة للخروج من قرون الظلام – إن أرادت ذلك!
هوامش:
[1] من الاجتهاد إلى نقد العقل الإسلامي، ص90
[2] الدين في الديموقراطية، موريس غوشيه، بيروت 2009، ص27
[3] من الاجتهاد إلى نقد العقل الإسلامي، محمد أركون، ص28
[4] الدين في الديموقراطية ص 29
🔁 العلمانية والديموقراطية والحقوق المدنية
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق