إذا ما اتضح تهافت البنية العقائدية النظرية لادعاءات "الشُّورى"، كما توصلنا في الجزء الأول من هذا المقال، فإن الواقع التاريخي لظهور وتطور الخلافة الإسلامية يكشف بسطوع ومن غير أية صعوبات وتعقيدات تقنية الغياب المأساوي لمبدأ "الشورى" على مستوى الواقع التاريخي.
فمنذ وفاة محمد بن عبد الله عام 632م وتولي بن أبي قحافة السلطة، كما تقول لنا السيرة الأدبية الإسلامية، وعلى امتداد كامل ما يسمى بفترة "الخلفاء الراشدين!" وحتى مقتل علي بن أبي طالب عام 661م، وهي مرحلة تاريخية استغرقت ثلاثين عاماً، لم يذكر لنا التاريخ الحقيقي أيَّ حدث سياسي يستند فعلاً وحقاً إلى أُسْسِ مبدأ "الشورى" الذي يُرفع لواءه الآن. بل أنَّ هذا التاريخ الواقعي وعلى أساس مصادره الإسلامية (وليس مصادر الأعداء كما يحلو للكُتَّاب المسلمين المعاصرين القول من أجل أن يبرروا الفترات المظلمة من التاريخ الإسلامي) يخبرنا بإن "الخلفاء الراشدين!" قد بدأوا بالاستحواذ على السلطة وعلى بيت المال من غير رقابة أو "مشورة الأمَّة" والرجوع إليها فعلاً في حل القضايا المستعصية آنذاك.
ولهذا فإن حقيقة كونهم قد قُتلوا جميعاً عنوة وكُرهاً يكشف عن مدى حقد الناس في ذلك الزمان عليهم من جراء ظلمهم وتجبرهم ورفضهم لآراء الآخرين. وإذا كان المنطق الإسلامي يقول لنا بأن هذه الفترة هي المرشحة أكثر من غيرها للتطبيق العملي لمبدأ "الشورى" ورغم ذلك تم خرقه وتجاوزه بفظاظة، فماذا ننتظر، إذن، من الخلافة العائلية الوراثية التي دشنها الأمويون وانتهت بانتهاء العباسيين؟!
ومع ذلك لنبدأ منذ البداية:
2.
المؤامرة:
اجتماع السقيفة وتخليف أبي بكر:
لم يمت محمد بعد ولم تبرد جثته في يوم الاثنين 12 ربيع الأوَّل سنة11ه (المُوافق 632م) [هكذا تقول السيرة الأدبية الإسلامية]، عندما قرر الباحثون عن السلطة وهم بضعة أفراد (لا شورى بين المؤمنين ولا هم يحزنون) الاجتماع في سقيفة تعود لقبلية بني ساعدة وبدأت أولى المعارك السياسية التاريخية الفعلية على السلطة وقد كانت أجواء الاجتماع ذاك (التي نقلها لنا كتاب السيرة أنفسهم) تخلو من أيِّ أثر لفكرة الدين أو الإيمان، بل كانت معركة سياسية/قبلية/شخصية على السلطة ولم يكن محمد قد أغمض عينيه بعد.
الحق أن هذا النوع من المعارك قد بدأ قبل موت محمد من فترة طويلة ولم يفعل خبر موت محمد غير أن يجعلها مُعْلَنة وواضحة بسطوع ولم يكن الصراع إلَّا صراعاً على السلطة من غير الأخذ بنظر الاعتبار أي مبدأ يدَّعُون إنَّ الإسلام ينادي به كـ"الشورى" مثلاً. وقصة “اجتماع السقيفة" الإسلامية، سواء كانت حقيقة أم نوع من الأدب الفقهي، تكشف لنا بما لا يقبل الشك بأن الصراع كان بين معسكرين: الأنصار من جهة والمهاجرين (قريش والمقربين إليهم) من جهة أخرى. وكان الخلاف واحداً لا غير: الأنصار نادوا بـخلافة سعد بن عبادة، والمهاجرون نادوا بخلافة بن أبي قحافة. وفي نهاية الاجتماع كان على الأنصار الخضوع لقرار المهاجرين بقيادة وتحريض عمر وليس تحت تأثير سلطة النقاش بل تحت سلطة القوة القرشية والتهديد. وقد تم فيما بعد اغتيال سعد بن عبادة والادعاء بأنَّ "الجن" هم الذين قتلوه!!!
إنَّ الطبيعة الإرادوية والذاتية للاجتماع وبُعْدُها عن أيِّ مُثُلٍ دينية أو أخلاقية هي التي دعت أبي بكر القول:
"بَيْعَتي كانت فلتة وَقَّى الله شرها"!
وهكذا فإن تفاصيل "اجتماع السقيفة" وما تلته من أحداث درامية (رغم اختلاف الصيغ التي وردت عنه) تبدد بما لا يقبل الشكَّ خرافة "الشورى" و"ديمقراطية" اتخاذ القرارات في القضايا المصيرية التي تخص "الأمَّة".
3.
استخلاف أبي بكر لعمر:
إنَّ حكاية تولي الخلافة من قبل عمر من البساطة والوضوح بحيث لا تحتاج إلى أي تحليل أو دراسة:
هي مَثَلٌ نموذجيٌّ على الغياب المطلق لأي فكرة لها علاقة بـ"الشورى" أو " أَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ"! فقد حدثت من دون أية تعقيدات درامية أو محاولات تبريرية حتى أنَّ كتاب السيرة فيما بعد لم يبذلوا جهداً في تبيض صفحة تاريخ الاثنين: بن أبي قحافة وعمر. فقبل موت بن أبي قحافة استخلف الأخير عمراً وانتهت الحكاية التي سموها “الشورى"!
ومما يثير السخرية والرثاء على حد سواء هو أنَّ "كُتَّاب السيرة" لم يكلفوا أنفسهم حتى البحث عن خرافة "الشورى" كما حدثت وأن بحثوا عنها فإنه لم يكن يعنيهم كيف قام بن أبي قحافة في تلك "السقيفة" باغتصاب السلطة بفضل فظاظة عمر وخشونة تصرفاته. إنهم يسكتون سكوتاً مريباً وكأن شيئاً لم يحدث.
فإذا كان تخليف بن أبي قحافة قد حدث في خضمِّ أحداث عاصفة في لحظة موت محمد مما سمحت لكتاب السيرة أنْ تمنح "اجتماع السقيفة" شورى شكلية بسبب حدوث "اجتماع" ما (مع أنه كان أقرب إلى المؤامرة من الاجتماع) فإن تخليف عمر كان "نظام وصاية" لا يقبل التبرير ولا المماطلة. والوصاية لا علاقة لها بـ"الديموقراطية" أو كما يحلو القول: الشورى".
إذنْ نحن الآن أمام تطور جديد: فبعد اغتصاب السلطة من قبل بن أبي قحافة وصلنا إلى وصايته باستخلاف عمر بعده. فإين هي "الشورى"؟
لنرَ ما حدث فيما بعد!
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق