1.
إن تاريخ الدولة العربية (وهي إسلامية العقيدة منذ اللحظة الأولى لظهورها) وحتى اللحظة الراهنة هو تاريخ للقمع والاستحواذ الشامل على السلطة.
فثقافة "السلطة المطلقة" هي ثقافة ذات جذور دينية في التاريخ العربي - الإسلامي.
2.
يقول لنا التاريخ الحقيقي (وليس التاريخ الأدبي للإسلام) بأنه ما خلت سلطة عربية/ إسلامية من القمع الرسمي للمعارضين سياسياً وللمختلفين دينياً. وأن ثقافة القمع التي يمارسها "أصحاب السلطة" والخاضعين لهذه السلطة أرسى "تقاليد" الاغتيالات وهذا ما تكشف عنه قائمة الاغتيالات الطويلة لرؤوس السلطة.
3.
يسرد الكتَّاب المسلمون عدة محاولات اغتيال لمحمد. بل أن موته مسموماً من الاحتمالات الشائعة في كتب المسلمين. وهذا ما يتعلق أيضاً بموت أبي بكر. فموته مسموماً هو من الأخبار التي تناقلتها الكتب الإسلامية.
ومن أجل إبعاد الشبهات عن مسؤولية المسلمين في تسميم محمد وأبي بكر فقد قرر "الرواة" تلفيق "حدوتات" عن مسؤولية اليهود في هذه الاغتيالات.
ومن "الطريف" - إذا كان في الأمر متسعاً من الطرافة، هو أن طريقة اغتيال أبي بكر تكرار ممل لطريقة اغتيال محمد!
وإذا كانت أخبار هذين الاغتيالين من الأخبار التي لم تحظ بــ"الإجماع" فإن اغتيال عمر وعثمان وعلي قد "أجمع" هواة الإجماع عليها!
إذ قتل عمر بن الخطاب بخنجر أَبي لُؤْلُؤَةَ؛ وعثمان بن عفان قتل بهمجية بسيوف "المسلمين" الغاضبين؛ ولم يخرج علي بن أبي طالب بموته عن التقاليد الإسلامية. فقد قتل بسيف عبد الرحمن بن ملجم في أثناء الصلاة أمام مئات الناس من أنصاره.
وبعد تصفية "الخلفاء" الذين كانوا أبعد عن الرشد فإن خلفهم من "الخلفاء" لم ينجُ منهم الكثير:
فقد قتل عبد الله وطلحة بن الزبير في حروبهما مع يزيد بن معاوية ومن ثمن عبد الملك بن مروان؛ مروان بن الحكم : يقال أن امرأته خنقته بمخدة؛ عمر بن عبد العزيز : يُعتقد أنه مات مسموماً؛ الوليد بن يزيد - قطّع بالسيوف؛ إبراهيم بن الوليد: مات غرقاً؛ مروان بن محمد - قتل بالسيف؛ السفاح :قيل سمَّ ولم يصح، وقيل مات بالجدري؛ المهدي: مات مسموماً؛ الهادي: دفع بعض جلسائه الى جرف النهر على سبيل اللعب فتعلق المدفوع به، فماتا كلاهما لأن الهادي وقع على أصول قصب [فارسي] قد قطّع فدخل في مخرجه فكان سبب موته، الهادي مات مسموماً (وثمة من يعتقد بأنه مات خنقاً) من قبل أمه الخيزران لأنه قرر جعل ولاية العهد لولده جعفر وخلع هارون الرشيد من ولاية العهد؛ هارون الرشيد: يقال أنه مات بسبب علاج خاطئ من طبيبه؛ الأمين: قتل بالسيف؛ المتوكل قطّع بالسيوف ؛ المنتصر: يعتقد أنه مات مسموماً؛ المستعين: قتل بالسيف؛ المعتز: أدخل في الحمام وأغلق [عليه] حتى مات؛ المهتدي : قتل بخنجر؛ المعتمد: يعتقد بأنه مات مسموماً، وقيل وقع في حفرة ملئت بالريش فاغتّم ، فمات؛ المقتدر: قطع بالسيوف؛ المنذر : قيل سمّه أخوه في مبضع؛ هشام المؤيد : قتل خنقاً؛ المهدي: قطع بالسيف؛ سليمان بن الحكم: قطع بالسيوف ؛ المستظهر: قتل بالسيف؛ المستكفي: مات مسموماً؛ القاسم بن حمود: مات خنقاً[ثامن خلفاء الأندلس، وثاني حكام بني حمود]؛ علي بن حمود: قتل بالخناجر.[ الناصر لدين الله أبو الحسن علي بن حمود -سادس خلفاء الأندلس، وأول حكام بني حمود،]؛ يحيى بن علي بن حمود: قتل بالسيف؛ حسن بن يحيى بن علي بن حمود: مات مسموماً . ..
والقائمة لم تنه لا آنذاك ولا الآن!
4.
وإذا ما قرر المؤمنون اختيار منطق المغالطات التاريخية كعادتهم وإن يخدعوا أنفسهم بخرافات العدالة الإسلامية وأن يختلقوا ما شاءوا من الاستثناءات كالخلفاء الراشدين وعمر بن عبد العزيز مثلاً بالنسبة للسُّنة – وهو أمر سيرفضه الشيعة من غير شك أو تردد، واضعين خلافة علي ابن أبي طالب فوق الجميع وفوق النقد والشبهات – فهو المعصوم الأول، فإن تاريخ حكم السنة والشيعة (الدول الفاطمية) الرسمي يقول لنا عكس ذلك.
5
فكيف حدث هذا؟
ما هي جذور ثقافة القمع التي تحملها الدولة العربية عميقاً في كيانها التاريخي؟
مهما حاولنا التغاضي عن الحقائق، ومهما سعينا إلى تلميع صفحة الإسلام وتبرأته مما حدث ويحدث الآن، فإنه هو العامل الحاسم والداخلي لظهور ثقافة السلطة المطلقة – وكل ثقافة مطلقة هي ثقافة قمع.
لكن نظام السلطة المطلقة (الذي بدأ بنظام الخلافة) في الإسلام له خصائص تميزه عن باقي أنظمة السلطة المطلقة الأخرى.
إذا ما أخذنا التاريخ الأدبي للإسلام وقرأناه بتأنٍ ومن غير قدسية فإنَّ أول شكل للدولة ورغم تخلفه قد ارتبط بالمكانة اللاهوتية للحاكم. والبداية كانت ما يسمى بالخلافة.
وقد أرست المكانة التي منحها المسلمون للخليفة أُسُس البنية المطلقة والمقدسة للحكومة العربية المعاصرة.
أما ما يقوله المسلمون عن "الشورى" و"العدل" و"حكم القانون" وغيرها فهي محض خرافات.
فسلطة الحكم الإسلامي تستند إلى عدة أسس هيكلية لا تقبل المساومة تحدد دكتاتورية هويتها الأساسية:
أولاً، الإسلام دين الدولة. وإن هذه المكانة المتميزة للإسلام ليست اختياراً. فـ"الدين عند الله هو الإسلام"، وكما جاء في تفسير ابن كثير:
"إن الدين عند الله الإسلام) إخبار من الله تعالى بأنه لا دين عنده يقبله من أحد سوى الإسلام، وهو اتباع الرسل فيما بعثهم الله به في كل حين، حتى ختموا بمحمد صلى الله عليه وسلم، الذي سد جميع الطرق إليه إلا من جهة محمد صلى الله عليه وسلم، فمن لقي الله بعد بعثته محمدا صلى الله عليه وسلم بدين على غير شريعته، فليس بمتقبل. كما قال تعالى: (ومن يبتغ غير الإسلام دينا فلن يقبل منه [وهو في الآخرة من الخاسرين]) [آل عمران: 85] وقال في هذه الآية مخبرا بانحصار الدين المتقبل عنده في الإسلام: (إن الدين عند الله الإسلام).
ثانياً، الإسلام هو دستور الدولة. وهذا يعني أن الشريعة مصدر أساسي للتشريع.
ثالثاً، إن إطاعة الحاكم فرض ديني تم تشريعه في القرآن:
"يأيها الذين آمنو أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولى الأمر منكم"
وهذه شروط "ذهبية" لظهور الطاغية!
6.
فمن هو الخليفة؟
"فالخلافة أو الإمامة أو الإمارة هي خلافة عن النبي (ص) في حراسة الدين والدنيا وذلك بحمل الناس على مقتضى النظر الشرعي وهي من أصول الدين إذا أريد بها تحكيم شريعة الله وهي من فروعه إذا أريد بها النظام السياسي كوسيلة لتحكيم شرع الله"*
والخليفة هو الإمام الأكبر ورئيس الدولة وولي الأمر، وطاعته واجبة بهذه الآية ومن ثم فوجوده واجب وبيعته واجبة لأن البيعة عي عهد الطاعة وتنفيذ شرع الله *
إذن، الخلافة حكم ديني والخليفة حاكم يخلف محمد – فهو يحمل مكانته ويكتسب هيبته.
"وفي الحكم المدني يكون الحاكم شخصاً غير معصوم ولا مقدس، بينما يكون في الحكم الديني معصوماً مقدساً، ولو كان ذلك بحكم الواقع De facto خلافاً لحكم الدين. وفي الحكم المدني يكون أمر الحاكم أو قضاؤه غير معصوم ولا مقدس، بينما يكون – هذا وذاك – في الحكم الديني معصوماً مقدساً، وإن كان ذلك بحكم الواقع De facto** خلافاً لحكم الشرع"** "وبالتالي فإن حكم الدين – باعتباره وجود حكم ديني – يكون بإنشاء أمة أو أمم أو نصب رياسة أو رياسات، لكنه لا يكون بتحديد شكل الرياسة في نظام بذاته هو الخلافة الإسلامية أو غيرها. وقد بدأت الخلافة الإسلامية – بهذا المفهوم المحدد – مجرد رياسة للجماعة التي كانت قد تكونت في وقتها. وكان الرئيس خالفاً للنبي (أي يليه في الوقت ولا يرث حقوقه) ثم انزلقت الخلافة إلى أحداث وتعبيرات انحدرت بها إلى أن أصبحت نظاماً دينياً، خلافاً لحكم الدين وحكم الشرع. فلقد صار الخالف للنبي خليفة للرسول، ثم خليفة الله، ونور الله، وظل الله: وهي صفات تفاعلت مع الواقع وأثرت فيه فجعلت من الخليفة شخصاً معصوماً لا يحاسب، مقدساً لا يساءل"**
"فما دام الخليفة مختاراً من الله، وما دام قوله قول الله وفعله هو فعل الله وحكمه هو حكم الله، فلا مجال لأي فكر سياسي ينظم طريقة اختيار الخليفة، ونظام عمله، وحقوقه والتزاماته، وكيفية عزله . . وهكذا. كذلك لا يمكن – بطريقة جدية غير نظرية – وبأسلوب فعلي غير جدلي – تنظيم حقوق المواطنين والتزاماتهم العامة (وربما الخاصة)؛ إذ لا يوجد لأي فرد كائناً من كان حق أمام الخليفة، وليس على الخليفة أي التزام قبل أي شخص، لأن الناس جميعاً عبيد له وإماء لحضرته، أرواحهم ملكه يزهقها حين يريد، وأموالهم له يستبيحها كيفا يرى"**
هوامش:
*الخلافة والخلفاء الراشدون بين الشورى والديموقراطية، المستشار سالم البهنساوي، القاهرة 1991 الصفحات 75 و85 على التوالي
** الخلافة الإسلامية، المستشار محمد سعيد العشماوي، القاهرة 1992، الصفحات 22 و23 و25 على التوالي
*** De iure وDe facto مصطلحان لاتينيان يعنيان على التوالي بحكم القانون وبحكم الواقع – أي بحكم الأمر الواقع.
للمقال بقية . . . .
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق