كلُّ سُلْطة مُفْسِدةٌ- أمَّا السُّلْطَةُ المُطْلقة فهي مُفْسِدةَ بصورة مُطْلقة!
في الجزء الثاني من المقال توصلنا إلى أن تصورات السلطة الشمولية للعقيدة الإسلامية هي العامل الحاسم والداخلي لظهور ثقافة السلطة المطلقة – وكل ثقافة مطلقة هي ثقافة قمع.
لكن نظام السلطة المطلقة في الإسلام (الذي بدأ بنظام الخلافة) له خصائص تميزه عن باقي أنظمة السلطة المطلقة الأخرى.
فسلطة الحكم الإسلامي تستند إلى عدة أسس هيكلية لا تقبل المساومة تحدد طابع الحكم الفردي لهويتها الأساسية:
أولاً، الإسلام دين الدولة.
وإن هذه المكانة المتميزة للإسلام ليست اختياراً. فـ"الدين عند الله هو الإسلام".
ثانياً، الإسلام هو دستور الدولة.
وهذا يعني أن الشريعة مصدر أساسي للتشريع.
ثالثاً، إن إطاعة الحاكم فرض ديني تم تشريعه في القرآن.
[للمزيد من الأفكار والتأملات راجع: محمد [1]: ثالوث الطاعة المقدس
1.
لقد تحولت هذه المنظومة من الأفكار والعقائد المتعلقة بالخليفة والإمام والولي والسلطان والأمير إلى نظام يسم مكانة الحكام المسلمين بصورة عامة والحكام العرب بصورة خاصة.
فإذا ما استثنينا "الملكيات" و"الإمارات" و"السلطنات" العربية التي تخضع بحكم القانون وبحكم الواقع إلى سلطات الخليفة الإسلامي فإن الجمهوريات العربية وبغض النظر عن دساتير هذه الجمهوريات [إن وجدت مثل هذه الدساتير]؛ وبغض النظر عن التصريحات والوثائق الرسمية؛ وبغض النظر عن وجود انتخابات برلمانية ورئاسية أو عدم وجودها: هي بحكم الواقع أنظمة خلافة كطريقة تفكير وعقلية سياسية وإجراءات وتطبيقات للقوانين. بل إنها جميعاً وبالتعبير المعاصر دول ذات حكم يستند إلى الطابع الفردي المحض!
2.
ولهذا وليس من الصدفة أن يكون النظام الغالب في الدول العربية هو الجمهورية الرئاسية. غير أن "الجمهورية الرئاسية" العربية لا تخضع إلى أي شكل من الرقابة:
فـ"البرلمان!" تحول إلى هيئة "حزبية" تابع للحزب الحاكم وتم تقليص، وفي كثير من الأحيان تقويض، المعارضة البرلمانية التي لم تعد وظيفتها غير الموافقة على مشاريع الحكومة الدستورية وقرارتها السياسية [فهي بصرياً لا تعني غير: رفع الأيدي عالياً للموافقة في التصويت].
كما تم تفريغ المحكمة الدستورية من محتواها الرقابي على شرعية القرارات والقوانين والمراسيم الصادرة من قبل الحكومة والبرلمان عن طريق تغلل ممثلو الحكومة فيها.
أما المؤسسات الرقابية الأخرى مثل هيئات الرقابة المالية فهي بيد السلطة السياسية الحاكمة.
3.
وهكذا تحول رئيس الجمهورية الذي غالباً ما يُطلق عليه "الأب القائد" و"الرئيس المؤمن" و"الأب الحنون" و"القائد الفذ" وغيرها من خزعبلات الثقافة اللغوية للسلطة العربية إلى "خليفة" معاصر. فاحتل "رئيس الجمهورية" مكانة استثنائية ولم يعد "رئيساً" منتخباً – بل "رئيساً مختاراً" من السماء ليرعى شؤون الرعية.
4.
لقد أصبحت ثقافة "الحكم الجمهوري" العربي امتداداً لثقافة حكم الخلافة الإسلامية العربية!
فالحقيقة الصَّارخة هي أنَّ الدولة العربية (مهما سُمِيَّتْ) لا تستند إلى أيِّة مشروعية سياسية؛ الدولة العربية هي دولة اغتصاب واستحواذ "زُمَر" عسكرية أو مدنية أو عائلية تسير الحكم بوسائل القمع المنظم والمخابرات، وفي بعض الأحيان عن طريق الرشوة - حين تتوفر الظروف الاقتصادية لذلك.
أمَّا الانتخابات التي تقيمها البعض منها فهي "تظاهرات" مضحكة للتعبير عن قيم "ديمقراطية" لا وجود لها في رؤوس المنظمين لها. بل أنَّ أعتى الحكومات العربية هي الأكثر ولعاً بين الجميع في إقامة الانتخابات!
فحقيقة كون "النظام الجمهوري الرئاسي" هو النظام السائد في الدول العربية الجمهورية [والاستثناء الوحيد هو لبنان – رغم أن النظام السياسي اللبناني ليس أقل سوءاً من الأنظمة العربية الأخرى] وإن أغلب الرؤساء العرب لا تنتهي مدة رئاستهم إلا بالموت بسبب الشيخوخة أو بالاغتيال أو عن طريق انقلاب كارثي على البلاد، يكشف عن حقيقة "الانتخابات العربية" وطبيعة السلطة العربية!
أما ما يتعلق بحالة الأمراء والملوك العرب فالأمر لا يختلف: فآليات التصفية الجسدية والاغتيالات والاحتراب ما بين مراكز القوى القبلية/العائلية وإبعاد بعضهم البعض عن مراكز السلطة وتولي العرش هي حقائق يعرفها القريب والبعيد.
5.
السلطة مفسدة!
هذا قانون لم يخرج عنه حاكم عربي [ولن يخرج عنه أي حاكم على الأرض. أما في الديمقراطيات الغربية فإن سلطة القانون وقوة المجتمع المدني تسهم بصورة فعالة في تحجيم مثل هذه المساعي وخنقها].
لقد ارتبطت مفاسد السلطة العربية/الإسلامية بالاستحواذ الشامل على السلطة ورفض التخلي عن جزء منها بغير وسيلة القوة المضادة. فالخليفة "ظل الله على الأرض" كما يدعي محمد وقد أصبح رئيس الجمهورية المعاصر هذا "الظل" هو الآخر!
وهذا ما جعل للسلطة العربية خصيصتين أساسيتين باقيتين حتى الآن:
- البقاء على دفة السلطة إما حتى الموت الطبيعي، أو عن طريق التصفية الجسدية من قبل الرافضين لسلطتهم. أما حالات التخلي عن السلطة برضاء الحكم فهي ظاهرة نادرة جداً في تاريخ السلطة العربية ونحن الآن شهود عيان على ما يحدث.
- وإما قتل الحكام وتصفيتهم جسدياً – سواء بخناجر المعارضين أو أفراد العائلة نفسها فهو من "الفولكلور" العربي الإسلامي.
وكما نرى كيف تحولت الدولة العربية المعاصرة إلى صورة للخلافة القروسطية ولا فرق إلا في الهيئة الخارجية قوات الحماية الاستعراضية وسيارات المرسيدس السوداء.
لقد تحول الفساد الاقتصادي وسوء استخدام السلطة وقمع الحريات الشخصية وتكميم الأفواه وإشاعة الخوف بين الناس إلى قيم أخلاقية وسياسية تباركها هيئات الفقه وسلطات اللاهوت الإسلامي [للاختصار آمل الاطلاع على ثلاثية:
6.
إلا أن تكرار نظام الخلافة بهيئة رئاسة الجمهورية لم يقتصر على ثقافة السلطة المطلقة الغاشمة فقط بل وتكررت ثقافة التصفيات الجسدية للحكام العرب الذين رفضوا في الماضي ولا يزالون يرفضون التخلي عن السلطة. فأضحت الانقلابات الدموية والتصفيات الجسدية هي الطريقة الوحيدة لتبادل السلطة!
وهكذا ففي القرن العشرين وبداية القرن الحادي والعشرين تعود عجلة القتل التي صنعتها الخلافة الإسلامية من جديد وتم تصفية الكثير من الحكام العرب وعلى أيدي عرب مسلمين:
من بين 9 ملوك ورؤساء في العراق لم ينج غير واحد فقط!
- الملك فيصل بن حسين بن علي الحسين الهاشمي، أو فيصل الأول (1883 ـ 1933) مات مسموماً.
- أما صاحب النهاية المأساوية الثاني فهو غازي بن فيصل بن الشريف حسين الهاشمي أو غازي الأول (1912 – 1939) وهو ثاني ملوك العراق، حكم من 1933 حتى 1939.
- الثالث ذو النهاية المأساوية فهو الوصي عبد الإله بن علي (1939 ـ 1958). وقد قتل عبد الإله في 14 يوليوز 1958مع العائلة المالكة.
- ورابع حاكم عراقي انتهى حكمه نهاية مأساوية هو الملك فيصل الثاني بن غازي 1939 ـ 1958. تولى الملك فيصل الثاني سلطاته الدستورية يوم 2 ماي 1953 وبقي ملكا على العراق حتى صباح يوم 14 يوليوز 1958 حيث انتهى العهد الملكي وقيام الجمهورية.
- وخامس زعيم عراقي لاقى نهاية درامية هو الزعيم عبد الكريم قاسم (1914 ـ 1963)، الذي كان رئيسا للوزراء والقائد العام للقوات المسلحة ووزير الدفاع في العراق من 14 يوليوز 1958 وحتى 1963.
- عبد السلام عارف تم اغتياله عن طريق وضع متفجرات في الطائرة التي كان من المفروض أن تنقله من مدينة البصرة إلى بغداد في يوم 13 أبريل 1966. وقد احتل منصبه أخوه عبد الرحمن عارف – وهو الوحيد الذي لم يُقتل لأن حفاظه على حياته كان أكبر من ولعه بالسلطة!
-استأنفت عجلة الموت والقتل في العراق باغتيال أحمد حسن البكر مسموماً من قبل نائبه صدام حسين، الذي نُصِّب رئيسا لجمهورية العراق من 1968 إلى 1979 واحتل صدام حسين مكانه. وقد قام الأخير بسلسلة من عمليات الاغتيالات لعدد كبير من قادة حزب البعث المنافسين له.
- بعد احتلال العراق من قبل القوات الأمريكية عام 2003 تم شنق صدام حسين - واحد من أكثر الحكام العرب سفالةً في التاريخ المعاصر. ولن يوازيه في سفالته غير معمر القذافي.
غير أن القائمة لم تنته:
ومن الملوك الذين تم اغتيالهم الملك عبد الله الأول مؤسس مملكة الأردن والملك فيصل، العاهل السعودي الثالث. كما وقتل وصفي التل- رئيس وزراء أردني.
وقد قُتل الرؤساء اليمينيون إبراهيم بن محمد الحمدي أحمد حسين الغشمي، الرئيس الرابع لجمهورية اليمن وعلي عبد الله صالح والرئيس الجزائري محمد بوضياف. وفي لبنان تم اغتيال رياض الصلح - رئيس وزراء لبناني ورشيد كرامي- رئيس وزراء لبناني ومن ثم تم الرئيسين اللبنانيين بشير الجميل ورينيه معوض. كما وتم اغتيال رئيس الوزراء رفيق الحريري.
وفي مصر تم اغتيال محمود فهمي النقراشي - رئيس وزراء ؛ ؛ بطرس غالي - رئيس وزراء؛ أحمد ماهر باشا - رئيس وزراء. وإذا ما تغيب الأدلة على فرضية موت جمال عبد الناصر مسموماً فإن اغتيال السادات كان عرضاً عسكرياً لا يليق إلا به أمام كاميرات التلفزيون وأنظار الملايين من المشاهدين.
[صورة تذكارية لبعض الشباب الطغاة المرحين – جامعة السخف العربية]
هذا جزء بسيط من ثقافة الاغتيال العربية الإسلامية. فهناك العشرات من السياسيين والمثقفين المعارضين والعشرات من أعضاء الحزب المنافسين (كما حدث في حزب البعث العراقي والسوري)، والكثير من حالات الموت الغامضة والكثير من الخلافات العائلية في السلطة الحاكمة التي تنتهي بتصفية المنافسين.
6.
قد يعترض البعض على أن الاغتيالات ليست تراث إسلامي فقط.
وأنا أتفق مع هذا الاعتراض.
لكنني لا أتحدث عن "الاغتيالات" بصورة عامة (فهذا موضوع سأتطرق إليه في مقال آخر). لقد تحدثت في الجزء الثاني من هذا المقال وفي هذا الجزء عن طبيعة السلطة المطلقة العربية/الإسلامية منذ نشأة الإسلام حتى الآن وسعيت إلى البرهنة على أن الوجه الآخر لسلطات القمع للخلفاء والملوك والأمراء والرؤساء العرب هو تصفية الحكام الممثلين لهذا السلطات جسدياً. وإن هذين الوجهين كانا متلازمين ولا يزالان حتى اللحظة الراهنة.
والاغتيال السياسي أينما كان هو الوجه الآخر للسلطة الشاملة القمعية وغياب الديموقراطية وانهيار سلطة القانون. ولم يكن الدين يوماً (ومهما كانت العقيدة الدينية) عاملاً كابحاً للاغتيالات. بل أن الدين كان دائماً عاملاً فاعلاً في هذه الاغتيالات. فـ"الحق الإلهي" الذي يدعي امتلاكه المتدينون يسوغ عمليات الاغتيال مدافعين عن "قضية الله" المقدسة. وهذا ما قام به المسلمون منذ ظهورالإسلام ولا يزالون يقومون به – أو أنهم على استعداد للقيام به إن توفرت الفرصة إلى ذلك. وقد قدمت فرق "الحشاشين" الاسماعيلية المثال النموذجي على ثقافة الاغتيال ضد المعادين والمخالفين سعياً إلى السلطة - والسلطة فقط.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق