1.
عليَّ أن أعترف بأنني في اللحظة التي رأيت فيها اعتراف أحد المسلمين بأنه "يفتخر بعبوديته" تداعت إلى ذاكرتي أفكار أريك فروم في "الهروب من الحرية". فكان من الطبيعي (على الأقل بالنسبة لي) أن تترابط أفكار فروم مع تصورات إيتيان دو لا بويسي في "العبودية الطوعية".
ولهذا فإنني لم أستطع تجاوزهما وأنا أتأمل هذا الاعتراف المشين.
2.
ورغم أن كلا الكاتبين لا يتحدثان عن الإسلام والمسلمين فإن في كلا الكتابين وصفاً دقيقاً وعميقاً وقاسياً للبنية السيكولوجية للمسلمين الذين يشعرون بالنشوة من فكرة "العبودية" والرافضين بصورة مَرَضِيَّة للحرية. وإن هذا الموقف الكاره للحرية والتفكير على أساسه يظل يطارهم حتى لو غادروا الإسلام إذا لم يجتثوا روح العبودية من ثقافتهم من جذورها ويستأصلوا كل علاقة بالدين.
3.
الفاجعة:
أنْ يفتخر "الإنسان" بعبوديته متخلياً طوعياً عن حريته فإنَّه لابدَّ قد حَدَثَ أمْرٌ جَلَلٌ!
أمَّا إذا لم يكنْ قد حدثَ أمرٌ جللٌ؛ وإن الأرض لا تزال تدور حول الشمس؛ والشمس لا تزال مشرقة، فإنها في هذه الحالة معضلة حقيقية لا يمكن حلها إلا إذا أخذنا بنظر الاعتبار بأنها حالة مَرَضِيَّة.
4.
يقول المثل الإنجليزي: "ضع نفسك في حذائي!": أيْ تخيل نفسك أن تكون في ظروفي؛ ضع نفسك في مكاني!
لكنني وعليَّ أنْ أقول بصريح العبارة ومن غير أيِّ تردد:
لنْ أضع (ولا حتى أتخيل ولو للحظة واحدة أن أضع) نفسي في مكان هذا المسلم فهدا أمر مخزي!
فـ"روح العبودية" الطوعية لا يمكن أن تكون تجربة تستحق المشاركة والتفهم في ظروف يستطيع الإنسان ألا يكون عبداً لعقيدته.
إنَّ قوة الإجبار والاستبداد يمكن أن تطيح بالجسد وتستعبده؛ تعتقله وتقيد حركته؛ تُكَمِّم فمه وتمنع عنه حرية التعبير- وهذا ما يحدث للناس في مملكة الظلام.
ولكنْ ليس بمقدور مملكة الظلام – أو أية مملكة أخرى أن تصادر عقول الناس الذين يرفضون التخلي عن عقولهم أو أنْ تُفْسِد قدرتهم على التفكير النقدي إنْ تحصنوا ضد هذا الإفساد..
فالخضوع الجسدي الخارجي (الإذعان الاجتماعي والجسدي وتحمل الهراء اليومي) لا يطيح بعقول جميع البشر. فهناك من يظل حراً تماماً يتحدى جبروت عالم الاستبداد الذي يعيش في ظله.
إنها قضية اختيار.
5.
[سجن الجسد سجن مؤقت مهما طال، أما سجن العقل فهو سجن مؤبد] |
تعريف العبد والعبودية: غياب الإرادة
مهما تعددت وتنوعت أشكال العبودية في المكان والزمان؛ ومهما اختلفت الشروط التاريخية – الاقتصادية والاجتماعية، فإنَّ ما يربط جميع الأشكال هو شيء واحد أساسي:
غياب الإرادة!
أو بكلمة أدق: تغييب إرادة الإنسان طوعياً أو بالإكراه الخارجي.
فالقاسم المشترك إذن هو غياب الحرية.
أيْ أن العبد هو الفاقد لحرية التفكير والعيش والتعبير.
6.
الهروب من الحرية:
هو العبودية الطوعية والتي تبدأ من العبودية لوهمٍ - لا يهم ما اسمه: "الله" أو "الفيل الطائر" أو "البطاطا المسلوقة". فهي أسماء لا غير – لا تحل ولا تربط. أمَّا "البطاطا" المسلوقة فهي تُشبع الجائع – وهذا ما تعجز عنه خرافة "الله" و"الفيل الطائر".
ملاحظة هامة:
إنَّ "الفيل الطائر" فكرة طريفة ومثيرة للخيال والقدرة على الابتكار.
أما "الله" فهو فكرة سخيفة ومملة وسقيمة.
7.
كيف يحدث هذا الانحراف عن طريق العقل والتفكير السوي؟
كيف يتخلى المسلم عن حريته طوعاً؟
إنَّ مثل هذا الانحراف العميق في العقل والمشاعر الإنسانية لا يمكن فهمه على أساس "الإيمان" فقط.
فالملاحظة اليومية لا تكشف لنا عن تماسك في طبيعة العلاقة الإيمانية ما بين المسلم وفكرة "الله" إلا من حيث النوع ولكن ليس من حيث الدرجة.
ودرجة "الإيمان" في موضوع نكران الذات والحرية الشخصية له قيمة حاسمة لا تقل عن نوع الإيمان.
فلماذا لا نرى ولا نسمع جميع المسلمين يصرخون ليل نار بامتنانهم لعبوديتهم وخضوعهم لفكرة الله ويعبرون عن فخرهم بهذه العبودية؟
ولماذا يمتنع الكثير من المسلمين عن أداء أكثر الطقوس والمتطلبات الدينية أسياسيةً– كالصوم والصلاة والحج والزكاة؟
ولماذا يهجر الكثير من المسلمين الإسلام حاملين في تفكيرهم عقائد مختلفة؟
ولماذا يرفض الكثير من المسلمين العقيدة الدينية الإسلامية وفكرة "الله" باعتبارها هراء لا تستحق الإيمان والتصديق؟
إذنْ "الإيمان" لا يكفي لتفسير هذا الانحراف العقلي والنفسي واستحالة البشر إلى زومبي"zombie" يتخلون "طوعاً" عن عقولهم ويلقون بأنفسهم في لجة بحر الأوهام.
6.
متلازمة ستوكهولم:
فطالما توصلنا إلى أنَّ "الإيمان" لوحده لا يفسر لنا الحالة النفسية المتطرفة للمسلم بالتخلي عن أيِّ شكل من أشكال اعتبار الذات والسقوط في هُوَّة الغياب والرفض الحاسم للحرية والإرادة الذاتية وتفضيل وعي العبودية والخضوع المطلق لفكرة "الله"، فإنَّه لابد وأنَّ ثمة سبب/أو أسباب أخرى تفعل فعلها بموازاة "الإيمان". وإنَّ واحداً من أهم هذه الأسباب هو: تأثير "متلازمة ستوكهولم".
متلازمة "Syndrome" ستوكهولم مفهوم أرسى معالمه الأولية الطبيب السويدي في مجال الطب النفسي الجنائي نيلس بييروت Nils Bejerot (1921 – 1988) بالعلاقة مع أحداث المحتجزين الأربعة عام 1973 في أثناء السطو المسلح على خزانة حفظ المقتنيات في أحد البنوك.
متلازمة ستوكهولم هي ظاهرة نفسية مَرَضِيَّة معقدة حيث يقع الشخصُ المُخْتَطَفُ (أو المحتجز رغماً عن إرادته، أو الذي يخضع للاستبداد والقمع والقهر في الحالات المختلفة لفترة طويلة، أو القمع في إطار الأسرة كالزوجة والأبناء) ضَحِيَّة لحالة من الاندماج العاطفي (التوحد، التطابق، المعايشة المشتركة) غير الواعي بالمُخْتَطِف (بكسر الطاء) أو الشخص الذي يمارس فعل القمع والاضطهاد عليه. ويتمثل هذه "الاندماج" بمشاعر الحب والاحترام والإعجاب إزاء المُخْتَطِف (بكسر الطاء). بل وقد تصل هذه المشاعر إلى حد التعاطف" والخضوع "الطوعي" لقراراته والدفاع عنه وتبرير أفعاله من قبل الشخص المُخْتَطَف (بفتح الطاء).
7.
عبودية الجماهير:
إننا نجد تعبيراً نموذجياً عن هذه الظاهرة في مجال أوسع كثيراً من التجربة الشخصية:
علاقة "الجماهير" الغريبة والمَرَضِيَّة بالحكام المستبدين.
إذ أن مشاعر الخوف والرهبة من هؤلاء الحكام – بل وحتى الكراهية إزاءهم تتحول إلى نوع من التقديس والتمجيد والخضوع المبالغ فيه.
في الاحتفالات "الشعبية" التي تنظمها، وتقوم بـ"كتابة السيناريو لها وإخراجها" مؤسسات الحكم الأمنية العربية، نرى كيف تندفع هذه "الجماهير" التي تعاني من ويلات الظروف المعاشية القاسية وغياب الحريات والفساد المالي والبطالة وسوء استخدام السلطة وتفشي الأمراض وانعدام أبسط الخدمات البلدية إلى تقبيل "يد الرئيس" أو الانحاء والسجود أمامه أو التصفيق باليدين "والرجلين إنْ تَطَلَّب الأمر!" والتهافت إلى لمسه أو تقبيله والهتافات "الحارة" التي "تمزق نياط القلب" بحياته و"منجزاته" الكبرى التي تحدى فيها أمريكا والصهيونية والامبريالية!
وفي كثير من الحالات يؤدي ترحيب "الجماهير" بـ"السيد الرئيس، أو الأب القائد" أو "الأب الحنون" إلى سقوط الضحايا بالسحق تحت أرجل الشعب السعيد بقدوم "سيادة الرئيس"!
إنه باختصار متلازمة ستوكهولم:
إذ تقوم الضحية "الجماهير" بسحق نفسها تحت أقدام "الملك" و"الرئيس" أو أي "خرتيت" آخر تعبيراً عن عبوديتها وخضوعها له (الملك والرئيس والخرتيت) لا احتراماً له وحباً به. فهي تريد أن تثبت له بأنها رغم ما تتعرض له بسبب حكمه ورغم كراهيتها له فإنها تظل خاضعة له وتبعد عنه الشكوك بتمردها ضده حتى لا تلقى منه أسوء ما لقيت حتى الآن.
8.
قد تبدو الآن المهمة أيسر قليلاً لكي نفهم هذا المسلم وكيف يصرخ بالتعبير عن الفخر بعبوديته وتخليه عن أبسط أشكال الشوق إلى الحرية.
إنه نوع من الشعور بالمهانة الذي يتحول تدريجياً إلى شعور بغياب القيمة وتفاهة الوجود.
ولهذا فهو يصرخ: أنا مهان!
إنه يصرخ بحثاً عمن يمد له يد العون ويخلصه من ورطته!
بدلاً من الخاتمة:
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق