1.
لا توجد "أدلة" أشدُّ دلالة على فشل العثور على "أدِلَّةٍ" على وجود "الله" مثل "الأدِلَّة" العقلية"!
ولأن الفكر الإسلامي هو حصيلة الفكر الكلامي البلاغي من القرن الثامن، فربما لا يوجد نوع آخر من "الأدِلَّة" على "وجود الله" أكثر ملائمة و"حميمية" من مثل هذا النوع من الأدِلَّة.
2.
إنها، يمكن القول، من أسلحة الدفاع اللاهوتي "الفتَّاكَة!" على "وجودٍ" فقدوا الأملَ من غير رجعةٍ في البرهنة عليه. لكنها قبل كل شيء بضاعة فاسدة ظلوا يبيعونها على أنفسهم لقرونٍ طويلة لا لهدف آخر غير الشعور بنشوة الانتصار على عدوٍ لا وجود له.
3.
إنهم فقدوا الأمل إلى الأبد في أن يَكْشِفُ هذا الذي لا وجود له عن نفسه. لقد انتظروا "المعجزة" دون جدوى.
ففي البداية لجأوا إلى "أدلةِ" من نُصُوصَهُمْ "المقدسة" التي تتضمن حيل الرواية عن "تاريخ" بائد (من نوع كان يا ما كان) ؛ تاريخ ما قد حدثت فيه معجزات برهانية على هذا "الوجود"! إلا أن التاريخ الحقيقي وعن طريق النقد التاريخي أثبت بما لا يقبل الشك أن لا وجود "للتاريخ المقدس".
ولأنهم يعرفون (وربما لا يعرفون، مَنْ يدري؟) بأنهم قد فشلوا فشلاً ذريعاً في إقناع الآخرين، فإنه لم يعد أمامهم شيئاً آخر غير أن يقنعوا أنفسهم:
ولهذا قرروا البحث عن أدلة من نوع الأدلة "العقلية!".
4.
الحق أنها تمارين كلامية:
مقدمات عقلية (ذات طابع ادعائي) تؤدي إلى استنباطات هي الأخرى عقلية!
إن رجال اللاهوت (ومن يتبعهم من أنصاف المتعلمين وصغار هواة البراهين العقلية الذين يرددون هذه البراهين، وكالعادة، على طريقة الترديد الببغائي للآيات القرآنية لتلاميذ المدارس) يشبهون حكاية المعتوه الذي قرر أن يسرق تمراً من البستان القريب فوضع على عينيه عصابة سوداء حتى لا يراه أحد!
ولكننا، ولشديد أسفهم، نراهم!
5.
الدليل الوجودي على "وجود الله" أم اليأس الوجودي على "وجوده"؟!
ولكن ماذا يقدم لنا اللاهوت كطريق "عقلي" للبرهنة على فرضياته؟
الجواب هو: البراهين العقلية!
وهذا هو جوهر كل اللغو والفذلكات:
ولنستمع إلى (أو لنقرأ) البرهان الوجودي كما صاغه أنسلم (أسقف ولاهوتي 1033 – 1109) وبكلماته هو:
"فإن على ذلك الجاهل أن يكون مقتنعاً، على الأقل، بأن الكائن الذي لا يمكن تصور أعظم منه موجود في ذهنه، ذلك لأنه عندما يسمع هذا الكلام يتعقله وكل ما يتعقل موجود في الذهن ولابد. وبالتالي إذا كان ذلك الذي لا يمكن تصور أعظم منه موجوداً في الذهن فمن المحال القول إن الذي لا يمكن تصور أعظم منه هو ذلك الذي يمكن تصور أعظم منه في آن واحد. فلا شك إذن، إن كائنا لا يمكن تصور أعظم منه موجود في الذهن وفي الواقع"! [الدين من منظور فلسفي (دراسة ونصوص) - روبرت س. سلمون، بيروت 2009، ص 55]
وإذا ما أردنا أن نصوغ قضية منطقية من هذا الكلام فهي تبدو هكذا:
- إن الله هو الكائن الذي لا يمكن تصور أعظم منه في ذهننا،
- ولأنه من المحال القول إن الذي لا يمكن تصور أعظم منه هو ذلك الذي يمكن تصور أعظم منه في آن واحد،
- فلا شك إذن، إن كائنا لا يمكن تصور أعظم منه موجود في الذهن وفي الواقع!
إذن: الله موجود!
[مؤثرات صوتية: أصوات إطلاق رشاشات وهلاهيل وتصفيق وعبارة الله أكبر تتردد عشرات المرات!]
6.
هل من المعقول أن يعتقد عاقل بأن هذه الترهات تصلح لكي تكون برهاناً؟
طالماً لا توجد براهين حقيقية “فليس بالإمكان أحسن مما كان". وهذه هي الفلسفة الحياتية للدين!
هذا هو منطق “البراهين العقلية” وبشكل خاص “البرهان الوجودي” على وجود “الله” الذي تتسابق صفحات المسلمين على الإنترنت بالاستشهاد به، و"تلاوته" أو التغني به، هو وأدلة أخرى لا تقل عنه عبثية ولا منطقية!
ولا أعرف كيف يتسنى لشخص عاقل (رجل كان أم امرأة) أن يأخذ مأخذ الجد مثل هذه الكلام الذي أكل عليه الدهر وشرب؟!
7.
ولغرض التأمل في لامعقولية هذا "البرهان" لا لغرض تأكيد موقفي الخاص بل الكشف عن "مصداقية!" هذا البرهان، سأقتبس مقطعاً كاملاً من كتاب (الدين من منظور فلسفي) للأكاديمي "المؤمن" روبرت س. سلمون الذي هو الآخر يقتبس دليل أنسلم ويعلق فيه (بدبلوماسية متناهية أحسده عليها) على خرافة "البرهان الوجودي":
" من الواضح أن الدليل الوجودي، بعَدِّه دليلاً منطقياً، ليس بمقدوره أن يحوِّل غير المؤمنين إلى مؤمنين، وإذا كنت مؤمناً فإن الاعتراض على "الدليل" لن يضر إيمانك بأي وجه من الوجوه. لذا فإن دلالة الدليل، يشوبها الغموض. فبوصفه ممارسة منطقية فهو رائع، وبوصفه تعبيراً عن الإيمان يمكنه أن ينور، أما بوصفه برهاناً حقيقياً على وجود الله أو وسيلة لإقناع الملحدين فيبدو أنه ليس بمقدوره فعل ذلك على الإطلاق"[ص 73].
يريد المؤلف أن يقول: هذا مجرد كلام فارغ!
وهذا ما ينطبق تماماً على "برهان الصديقين" لابن سينا مثلاً وكل البراهين "العقلية" قديماً وحديثاً.
فهي تعتمد على نماذج كلامية متشابهة من نوع:
الكائن الذي لا يمكن تصور أعظم منه،
الكائن الواجب الوجود (ابن سينا)
المحرك الأول (أرسطو)
وهكذا . . . .
8.
ألا يثير الدهشة والاستغراب أن يبذل كل هؤلاءالظرفاء الظرفاء مثل كل هذه الجهود الجبارة للبرهنة على وجود"خالق عظيم!"، "كليِّ الوجود!"، "العلة الأولى وعلة جميع العلل!"، و"واجب الوجود!" و"الكائن الذي لا يمكن تصور أعظم منه!" بهذه السفاسف بدلاً من إعطاء دليل مادي واحد صغير بسيط، تراه العين ويدركه العقل المستيقظ (وليس النائم)؟
9.
إنهم يلعبون لعبة ساذجة مع أنفسهم (ومهما أوتوا من قدرات عقلية وثقافية) أمام متفرجين حمقى، وفي نهاية اللعبة يعلنون هُمْ أنفسَهم فوزَهُمْ بالمباراة.!
ولأسباب “منطقية!” محضة يستحيل “صياغة” قضاياهم بأوصاف أخرى!
وهذه هي الخلاصة المنطقية، ولكن القابلة للاختبار، على فشلهم التاريخي ِللبرهنة على “قضيتهم” الوحيدة والواحدة على امتداد تاريخ الديانات الإبراهيمية!
هنا عليَّ أن أروي نكتة من تاريخ "جمهورية ألمانيا الديموقراطية" سابقاً (الجزء الشرقي من ألمانيا):
أشترك أحد المعامل الاشتراكية في مسابقة عالمية في مجال الجودة الإنتاجية. ولأن هذا المعمل هو المشارك الوحيد في المسابقة(!)، فقد حصل على الجائزة الأولى. ولأن اللجنة التحكيمية لم تحضر المسابقة، فإن المعمل لم يستلم الجائزة!
هذه هي حكاية البرهان الوجودي على وجود "الله"!
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق