منع

من قتل محمود محمد طه؟

محمود محمد طه


مقدمة:
في مثل صباح هذا اليوم [18 كانون الثاني/يناير] من عام 1985 تم تنفيذ حكم الإعدام شنقاً حتى الموت بالمهندس محمود محمد طه الذي كان يبلغ من العمر آنذاك 76 عاماً.
والتهمة إسلامية الدلالة والرائحة وعربية التنفيذ:
الردة!
1.
وقد كان هذا الإعدام تنفيذاً [حكم الردة] الأول بصورة علنية ورسمية في التاريخ المعاصر [شكلياً] الإسلامي/العربي؛ وشرف حكم وتنفيذ هذا العمل المخزي قد حصل عليه قضاء النميري بدعم وتشجيع سلفيو ذلك الزمان العلنيين والمستترين (وفرح الأزهر على سبيل المثال والشيعة ذلك الزمان وهذا الزمان على حد سواء).
2.
أما ضحايا أنظمة العسف وفقه القتلة الآخرين الذين لم يُشنقوا "رسمياً/شكلياً" منذ ذلك التاريخ حتى الآن فقد تم إعدامهم "بصورة صريحة" عن طريق الاغتيالات العلنية مثل فرج فودة أو المستترة وهم كُثَرٌ.
فرغم تخلفها فقد اكتشفت السلطات العربية/الإسلامية أنَّ هذا النوع من الإعدامات الرسمية مُكَلِّف سياسياً [وربما مادياً]!
ولهذا فإنها قد اتبعت ولا تزال تتبع تقنيات وسياسات "الإعدام المستتر" الذي يتراوح ما بين "حوادث المرور" والموت بـ"قضاء الله وقدره"، مروراً بالاختفاء فجأة ومن ثم ظهور جثة المختفي على قارعة إحدى الطرق، أو محاربته في عيشه وحريته حتى الوصول إلى الاغتيال الصريح وتسجيل الدعوى إما ضد "مجهول- عادة- أو ضد شخص نكرة يقولون أنه قد تصرف بمفرده !!!
3.
حسناً:
منْ قتل محمودَ محمد طه؟
يحلو للكتاب العرب المسلمين الذين يغرقون في مستنقع الجهل والتفاهة أن يقولوا بأنَّ فلاناً قد قتلته "رؤيتُه"، أو "كلماته"، أو "لسانُه" عمن قُتلوا في التاريخ ظلماً [وهذا ما سيكون موضوعاً منفصلاً في المستقبل]!
فهل حقاً إنَّ من "قَتَلَ" الرجل أمام أعين جمهور من الذي يطير من الفرح هي آراءه الصريحة أمْ قتلته السلطة صراحةً – وهو التعبير الأدق لغةً ودلالةً وتاريخاً؟
[من سيحدثني عن "المجاز" سوف أحدثه عن أمور أخرى سوف يأسف على حديثه!]
4.
ليست الإجابة صعبة.
بل أنها من أسهل الإجابات في مملكة العسف والظلام:
بوضوح شديد وباختصار "ممل!": لقد قتلته السلطة المدنية إرضاءً للسلطة الدينية.
فتعاونهما الرسمي المشترك الحميمي [والذي يصل في بعض الأحيان إلى حدود الجنس الصريح] والعَقْدُ المبرم فيما بينهما قد بدأ منذ المتوكل ولا يزال العَقْدُ قائماً ونافذ المفعول.
5.
لم يكن المفكر السوداني المسلم محمود محمد طه في كتبه [وهي في الأصل محاضرات أمام حشد من السودانيين] وبشكل خاص: " الإسلام برسالته الأولي لا يصلح لإنسانية القرن العشرين" و" الرسالة الثانية من الإسلام" و"رسالة الصلاة" مضاداً للعقيدة الإسلامية بل هو ينطلق منها؛
ولم يكن محمود طه ملحداً بأي حال من الأحوال بل دافع عن العقيدة الإسلامية وقرآنِه ومُحَمَّدِه كما هم يدافعون؛
كما أنه ليس من الكتَّاب الذين ينادون بـ"حضارة" مختلفة عن "حضارة الإسلام" – بل على العكس تماماً. فقد هاجم "المدنية الغربية!" التي هي، حسب رأيه، وهو لا يختلف في ذلك مثقال ذرة عن سيد قطب في مقدمة "معالم في الطريق"، "قد بلغت نهاية تطورها، وقد فشلت فشلا نهائيا وظاهرا في أن تنظم حياة المجتمع البشري المعاصر" وإلى ..إلخ
لكنه [ولهذا قتل شنقاً حتى الموت] قرر أن يفكر بصورة مختلفة عن القطيع المسلم؛ بل وأنْ يفكر بصورة مختلفة تماماً، وأن يقرر بأنَّ المسلم لا حاجة له للفقهاء والمحدثين والمفسرين وكل من لَمَّ لمهم.
هذا هو السبب الحقيقي.
6.
يمكن القول أن محمود محمد طه هو المسلم الوحيد في القرن العشرين الذي سعى إلى "أنسنة" العقيدة الإسلامية وتقليم أظافرها بوضوح شديد [ولهذا قتل بوضوح أكثر شدة]!
بل هو وحتى اللحظة الراهنة المسلم العربي المؤمن الوحيد الذي سعى عملياً [من خلال تبني الحزب الجمهوري السوداني لأفكار محمود محمد طه] إلى إصلاح الإسلام ومحاولة تأسيس عقيدة دينية شخصية مسالمة تتآلف مع الزمن المعاصر وتنادي بالديموقراطية ، ليس على الطريقة الأزهرية أو الشيعية. ومن الناحية العملية فإن توجه الرجل لا تخسر العقيدة الإسلامية بسببه شيئاً غير فلسفة الكراهية ومنطق:
"وأعدوا لهم ما استطعتم" و" اقتلوهم حيث ثَقِفْتُمُوهُمْ " و" فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ " و" لْيُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يَشْرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا بِالْآخِرَةِ وَمَنْ يُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيُقْتَلْ أَوْ يَغْلِبْ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا " وغيرها؛
وهي فلسفة لم تجلب غير الوبال على الإسلام والمسلمين والآخرين في آن واحد وسوف تجلب الكثير من الكوارث على المجتمعات الإسلامية [هل ثمة كارثة لم تقع لحد الآن على هذه المجتمعات؟].
[رجاء:من يعرف أنَّ ثمة كارثة لم تقع على رؤوس المسلمين فإنني أرجو منه أن يشير إليها!]
7.
في كتابيه التأسيسين" الإسلام برسالته الأولي لا يصلح لإنسانية القرن العشرين" و" الرسالة الثانية من الإسلام" وقد قرأه السلفيون في كل مكان (وبشكل خاص في السودان) كالعادة على طريقتهم لم يدَّع بأنه صاحب "رسالة جديدة" [كما كُتب عنه في وقته ويُكتب الآن]وأقل ما يكون قد ادعى "النبوة".
فكل ما قام به هو محاولة قراءة "تاريخ الإسلام" خارج ما يقوله فقهاء الإسلام الرسميون ومفسرو القريان.
فهو يرى أن:
-  الجهاد ليس أصلا في الإسلام .. الأصل في الإسلام أن كل انسان حر اً"؛
- وإنَّ " كثيرا من صور التشريع الذي بين أيدينا الآن ليست مراد الإسلام بالأصالة . وإنما هي تنزل لملابسة الوقت والطاقة البشرية"؛
- و"الرق ليس أصلا في الإسلام فالأصل في الإسلام الحرية"؛
- و"عدم المساواة بين الرجال والنساء ليس أصلا في الإسلام والأصل في الإسلام المساواة التامة بين الرجال والنساء ، ويلتمس ذلك في المسئولية الفردية أمام الله، يوم الدين ، حين تنصب موازين الأعمال"؛
- " تعدد الزوجات ليس أصلا في الإسلام والأصل في الإسلام أن المرأة كفاءة للـرجل في الزواج ، فالرجل كله للمرأة كلها ، بلا مهر يدفعه ، ولا طلاق يقع بينهما . ويلتمس منع التعدد في قوله تعالى (( فإن خفتم ألا تعدلوا فواحدة )) وفي قوله تعالى (( ولن تستطيعوا أن تعدلوا بين النساء ولو حرصتم"؛
- بل هو لا يرى حتى أنَّ "الطلاق ليس أصلاً في الإسلام".
- مثلما يرى بأن " الحجاب ليس أصلا في الإسلام والأصل في الإسلام السفور .. لأن مراد الإسلام العفة .. وهو يريدها عفة تقوم في صدور النساء والرجال ، لا عفة مضروبة بالباب المقفول ، والثوب المسدول . ولكن ليس الى هذه العفة الغالية من سبيل إلا عن طريق التربية والتقويم"؛
- و" المجتمع المنعزل رجاله عن نسائه ليس أصلا في الإسلام وما يقال عن السفور يقال عن الاختلاط ، فان الأصل في الإسلام المجتمع المختلط ، بين الرجال والنسا ء"؛
وغيرها من الأفكار التي سعى صاحبها إلى تحويل الإسلام إلى عقيدة دينية إيمانية شخصية بين الفرد و"ربه" المتخيل وإن تخضع هذه العقيدة إلى معايير الحياة الواقعية منادياً بأن الديموقراطية هي أصل هام وقضية مصيرية في الحياة.
8.
في "الرسالة الثانية" وبعد أن يتحدث عن أصول نشأة الديموقراطية وتطورها يقول:
" ولقد وصلت مرحلة تطوير الديمقراطية الحديثة إلى مبادئ يمكن تلخيص أهمها فيما يلي:
- الاعتراف بالمساواة الأساسية بين الناس.
- قيمة الفرد فوق قيمة الدولة.
- الحكومة خادمة الشعب .
- حكم القانون .
- الاسترشاد بالعقل، والتجربة ، والخبرة .
- حكم الأغلبية، مع تقديس حقوق الأقلية .
- الاجراءات أو الوسائل الديمقراطية تستخدم لتحقيق الغايات في الدولة الديمقراطية .
- فليست الاجراءات ولا الأجهزة الديمقراطية غاية في ذاتها ، وإنما هي وسيلة إلى غاية وراءها .. فليست الديمقراطية أن تكون لنا هيئة تشريعية ، وهيئة تنفيذية ، وهيئة قضائية ، وإنما جميع أولئك وسائل لتحقيق كرامة الانسان .. فإن الديمقراطية ليست أسلوب حكم فحسب ، وإنما هي منهاج حياة ، الفرد البشري فيه غاية، وكل ما عداه وسيلة إليه، ولا يجد أسلوب الحكم الديمقراطي الكرامة التي يجدها عند الناس إلا من كونه أمثل أسلوب لتحقيق كرامة الانسان ".
كما أنه يرفض الدساتير الإسلامية والحكم اللاهوتي.
9.
سوف يلاحظ القارئ لكتبه [وآمل أن يتم الاطلاع– على الأقل على الكتب الثلاثة المشار إليها الموجودة مع الروابط] أن محمود محمد طه لم يخرج عن" صراط" الإسلام بل عن "صراط" الفقهاء؛ كما أنه لم يرفض الإسلام والقرآن ونبي الإسلام، بل أنه حتى لم يرفض أن يكون الإسلام "لكل زمان ومكان"!
كل ما سعى إليه هو قراءة "العقيدة الإسلامية" قراءة جديدة [كما يقرأه المسلمون الآخرون] ويصل إلى أن تطبيق "الشريعة" كما يسعى السلفيون مناقض للإسلام نفسه. فـ"الشريعة الجماعية ليست أصلا، وإنما الأصل الشريعة الفردية ، ذلك ، وبنفس القدر الذي به الجماعة ليست أصلا ، وإنما الأصل الفرد".
بل أن محمود محمد طه لم يرفض فكرة أن "الإسلام لكل زمان ومكان" ولكنه كان يرى أنه:
ن الخطأ الشنيع أن يظن إنسان أن الشريعة الإسلامية في القرن السابع تصلح ، بكل تفاصيلها ، للتطبيق في القرن العشرين ، ذلك بأن اختلاف مستوى مجتمع القرن السابع ، عن مستوى مجتمع القرن العشرين ، أمر لا يقبل المقارنة[...] ومع ذلك فان المسلمين غير واعين بضرورة تطوير الشريعة .. وهم يظنون أن مشاكل القرن العشرين يمكن أن يستوعبها ، وينهض بحلها ، نفس التشريع الذي استوعب ، ونهض بحل مشاكل القرن السابع ، وذلك جهل مفضوح ..
المسلمون يقولون إن الشريعة الإسلامية شريعة كاملة .. وهذا صحيح .. ولكن كمالها إنما هو في مقدرتها على التطور ، وعلى استيعاب طاقات الحياة الفردية ، والاجتماعية ، وعلى توجيه تلك الحياة في مدارج الرقي المستمر ، بالغة ما بلغت تلك الحياة الاجتماعية ، والفردية من النشاط ، والحيوية والتجديـد"!
10.
ما هي الرسالة الثانية من الإسلام؟
يرى محمود محمد طه أن الآيات المكية هي الأصل في الإسلام وهي الإسلام المفتوح أمام المستقبل ولهذا فهو يبدأ " في الرسالة الثانية من الإسلام" بنص "لا أكراه في الدين". أما أحكام الآيات المدنية فهي لم تعد تصلح "لإنسانية القرن العشرين".
ويقول أيضاً:
"ولما كانت الرسالة الثانية تقوم على الارتفاع من الآيات الفرعية إلى الآيات التي هي أصل ، والتي جرى منها التنزل إلى الفروع لملابسة الزمان ، ولملاءمة طاقة المجتمع ، المادية ، والبشرية ، فقد وجب الارتفاع بالتشريع، وذلك بتطويره ليقوم على آيات الاصول ، وكذلك يدخل عهد الاشتراكية، وعهد الديمقراطية. وينفتح الطريق إلى تحقيق الحرية الفردية المطلقة بالممارسة في مستوى العبادة ، ومستوى المعاملة . وهذه هي شريعة المسلمين .. شريعة الأمة المسلمة التي لما تأت بعد ، وقد أصبحت الأرض تتهيأ لمجيئها.. فعلى أهل القرآن أن يمهدوا طريقهم ، وأن يجعلوا مجيئهم ممكنا ، وميسرا ، وهذا ما من أجله كتب هذا الكتاب ".
[فهل كان محمود محمد طه يعتقد عن الفترة المدنية ما كانت عائشة تعتقده وقد ترجمت اعتقادها في مقولتها: ما أرى ربك إلا يسارع إلى هواك؟]
11.
بغض النظر عن اختلافي معه دينياً وثقافياً وعقائدياً فإن محمود محمد طه لم يرتكب جرماً يستحق عليه أي نوع من الأحكام القضائية.
فقد كانت له آراء يسعى من ورائها إلى الدفاع عن الحقوق المدنية والشخصية وتطبيق الدساتير والقوانين التي تدافع عن حقوق الأفراد "المسلمين" كمواطنين. وهذه قيم يستحق عليها الاحترام.
بل وحتى إنْ اختلف مع اللاهوت الإسلامي وقال كلاماً لا يعجبهم فهل يستحق هذا الكلام الإعدام؟
بل هل يستحق التعبير عن الرأي الإعدام؟!
وماذا عن "الآخرين" الذي لم يلتزموا ولن يلتزموا بالسراط المستقيم؟!
هل ينتظرهم ذات المصير؟

صورة وثائقية لساحة الإعدام محاطة بالمتفرجين والجنود والشرطة حيث تبدو منصة المشنقة في المنتصف


[صورة وثائقية لمنصة الشنق قبل تنفيذ حكم الإعدام]


لتاريخ القتل والقتلة بقية .

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

أحدث المقالات:

كتاب: حكاية الحمار العجيبة الذي قرر أن يكون مؤذناً!

المواضيع الأكثر قراءة:

◄ أربعة مقالات حول: خرافة "الرحمة" في الإسلام!

هل كان آينشتاين مؤمناً؟

مقالات عن الشيعة: اساطير التاريخ وأوهام الحاضر