منع

متلازمة syndrome “سَدُّ الذَّرَائِع": منطق التفكير العربي – الإسلامي

1.
"قاعدة" سد الذرائع من أصول الفقه السني، وخصوصاً المالكي والحنفي، وهي، كما يشير إليه المعجم الوسيط مثلاً: "قفل باب ما يُتعلَّل به، أو قطع الطرق المؤدية إلى الإثم والمعصية"، وكما عرفها القرطبي: "الذريعة عبارة عن أمر غير ممنوع لنفسه، يخاف من ارتكابه الوقوع في ممنوع"! [1]
فهو كما يتضح من التعريف "تَحْرِيم" ما هو "مُحَلَّل" على أساس "الشَّكِّ أو الاحْتِمَال" مِنْ أنْ يؤدي ارتكابه إلى أمر مُحَرَّم!
و"الأمر المحرم" يمكن النظر إليه من زوايا مختلفة تبدأ بــ"اللامرغوب" و"المكروه" وتنتهي بــ"المُحْرِجِ"!
إذ أن الشيء إذا أفضى إلى مفسدة كان فاسد، فوجب قطع الذريعة لما ينجم عنها من مفاسد. أما إذا أفضى الشيء إلى مصلحة فقد كان صالحاً، ومن هنا ترفع الذريعة!
وهذا تخريف فقهي!
2.
وحتى تتضح أبعاد الموضوع: أنا لا أتحدث عن "قاعدة سد الذرائع" بالذات، فهي نتيجة لاهوتية لفلسفة ومنطق "سد الذرائع" اللاهوتي الذي تحول إلى متلازمة فكرية وفلسفية.
ومن أولى القضايا التاريخية التي أرست نشأة منطق التفكير العربي – الإسلامي الذرائعي، هي قضية "أمية محمد".
حملت هذه القضية ولا تزال تحمل في طياتها كل آليات ومكونات فلسفة "سد الذرائع"، أكرر: فلسفة سد الذرائع، التي أصبحت فيما بعد بصورة علنية كقاعدة فقهية وبصورة غير علنية وحتى اللحظة الراهنة "متلازمة" syndrome التفكير العربي - الإسلامي: إنها عاهة عقلية!
3.
قضية أميِّة محمد:
إن قضية "أمية محمد" وكما تنقل إلينا المدونات العربية الإسلامية هي رد على اتهام المحاججين القريشيين واليهود آنذاك (كما تقول لنا المدونات الإسلامية) بصدد كون محمد قد نقل تعاليماً مسيحية عن طريق الراهب النسطوري "بحيرى". أو كما تخبرنا به سورة النور: (وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلاَّ إِفْكٌ افْتَرَاهُ وَأَعَانَهُ عَلَيْهِ قَوْمٌ آخَرُونَ فَقَدْ جَاؤُوا ظُلْمًا وَزُورًا [4] وَقَالُوا أَسَاطِيرُ الأَوَّلِينَ اكْتَتَبَهَا فَهِيَ تُمْلَى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلا [5])
إن هذه القضية لا تشكل بالنسبة لنا إلا "المادة الخام" التي أُرْسِيتْ على أساسها فلسفة "سد الذرائع". ولهذا فإنها لا تهمنا بحد ذاتها وإنما دورها في "خلق" و"تأسيس" منطق فاسد ذرائعي شكل فيما بعد عصب التفكير العربي الإسلامي منذ تلك اللحظة حتى اللحظة الراهنة وتأثيره على أغلب الردود (أو جميعها) التي "فبركها" الكتاب المسلمون فيما بعد بصدد الاتهامات المشار إليها.
فالمسلمون يرون بأن أمية محمد "برهان على صدق دعوته"، وحينما تنهار هذه الأسطورة فإن معها ستنهار أساطير أخرى!
ولكي نكتشف هذا "الفساد" التأسيسي، سنلقي الضوء على هذه القضية مستعينين بما تقوله كتب "السيرة" الإسلامية نفسها:
4.
إن أمية محمد تتناقض كلياً مع "الوقائع التاريخية" التي نقلتها لنا كتب "السيرة "الإسلامية والمتفق عليها من غير جدال (بالنسبة لهم). فانتماء محمد إلى عائلة من سادة قريش وإنَّ كل أعضائها المشهورين (علي ابن أبي طالب، الحمزة، العباس وابن عباس وغيرهم) كانوا يتقنون الكتابة والقراءة يجعل أميَّة محمد قضية مفتعلة. بل أن عائشة (زوجة محمد) نفسها كانت متعلمة (والعهدة على المدونات الإسلامية!). كما أن الكثير من "الصحابة" كانوا متعلمين عندما بدأ تبشير محمد بالإسلام. وهناك الكثير من المسلمين قد تعلموا القراءة الكتابة، كما تخبرنا كتب المسلمين بصدد أسطورة تحرير أسرى قريش في معركة بدر مقابل تعليم عشرة من غلمان المدينة. بل وكما تقول هذه الكتب فإن زيد بن ثابت نفسه (الذي تحول إلى كاتب الوحي الأسطوري) كان ممن تعلم القراءة والكتابة من الأسرى.
وهذا يعني أنها فرصة سانحة أمام من لم تتوفر له فرصة التعلم آنذاك، ومحمد من ضمنهم!
غير أن مصدر الدهشة الكبيرة هو الآتي:
أنَّ محمداً ظل أمياً كجدته وإمائه وكأنه وكأن المسلمين جميعاً سعداء بهذه الحقيقة "الأُمِّيَّة"!
يا جماعة:
محمد "مُصْطَفى" من قِبَلِ "الله" شخصياً، فلماذا لم يعلمه القراءة والكتابة!
هل تلعبون معنا، أم تلعبون مع أنفسكم!
5.
استناداً إلى "القرآن" تتضمن المعلومات القرآنية (بغض النظر عن قضية تشكلها وتراكمها ومصادرها وكُتَّابَها وأصالتها) التي تتعلق بأحوال الأمم وبالكتب السماوية السابقة بمجموعها وحدة معلوماتية ليس الحصول عليها أمراً سهلاً وليس من المنطقي الحصول عليها نتيجة للقاءات عابرة. بل أن فرضية النقل الشفهي في هذا الصدد حجة ضعيفة واهية. فمحمد لم يسافر كثيراً. بل أن المصادر الإسلامية لا تشير إلَّا إلى رحلتين (مشبوهتين من الناحية الوقائعية) وذات طابع أسطوري مع جده إلى الشام (وفي إحداها تفترض الأسطورة بأنه التقى الراهب بحيرى) وفي مرحلة مبكرة جداً من حياته.
وإذا ما افترضنا "صحة" هاتين الرحلتين ومهما كان طول فترة اللقاءات خلال هاتين السفرتين وبغض النظر عن الأشخاص الذين التقى بهم، سواء تلك التي تتعلق بالراهب بحيرى أو بآخرين أغنوا مدارك محمد، فإنها لا تكفي لكي تشكل مصدراً ثقافياً ما كتلك التي يتضمنها نص "القرآن".
6.
تشير المدونات الإسلامية بأن الجزء الأعظم من حياة محمد (قبل السنة الخامسة والعشرين حيث تزوج خديجة) كانت متركزة في الرعي ولا شيء آخر. وإن مثل هذا النوع من الحياة لا يمكن أن يوفر أية معلومات ذات طابع ديني وتاريخي. قد تساعد الوحدة والعزلة على التأمل ومراقبة الطبيعة لكنها لا تمنحه أية معلومات تاريخية (أما إلى أي درجة يمكن قبول فرضية ابن عائلة أرستقراطية يعمل راعياً، فهذه أيضاً قضية أخرى).
7.
إن الآيات الخمس الأولى من سورة العلق (التي يُفترض بأنها أول سورة في قرآن محمد) ذات دلالات لا يمكن عبورها بسهولة، وهي تنص على ما يأتي:
"اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ (1) خَلَقَ الإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ (2) اقْرَأْ وَرَبُّكَ الأَكْرَمُ (3) الَّذِي عَلَّمَ بِالقَلَمِ (4) عَلَّمَ الإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ (5)"
وبغض النظر عن التفسيرات وآليات التأويل المختلفة فإن آيات السورة تكشف بوضوح عن احتمالين:
الاحتمال الأول: إن محمداً كان يقرأ ويكتب وإلا لا معنى أن يطلب منه الربُّ القراءة!
أما تأويل فعل "القراءة" بمعنى "التلاوة" فهي جزء من "آلية" نظرية "أمية محمد". لأن فكرة "التلاوة" تفترض وجود نص مسبق يتُلى منه. وإلى جانب ذلك فإن استخدام فعل القراءة هنا مرتبط "بالقلم".
الاحتمال الثاني: وهو ما يمكن افتراضه من غير البحث عن أدلة، إنَّ طَلَبَ "جبرائيل" من محمد "أن يقرأ" يُمَثِّلُ "قراراً ربانياً" يفرض على محمد إما تعلُّم القراءة والكتابة مباشرة (كن فيكون!) وهي معجزة لا قيمة لها مقابل (عشرات المعجزات التي تعرَّض لها محمد قبل وبعد نزول الوحي!) أو أنها "رغبة إلهية" في أن يتعلم محمد القراءة والكتابة. ففعل "اقْرَأْ" بصيغة الأمر يتردد مرتين في أول كلمة من أول آية وأول كلمة من الآية الثالثة من أول نص إلهي! وإنه من قبيل اللغو والسخف وإضاعة الوقت ألا تتطلب هذه السورة واحداً من الاحتمالين المشار إليهما.
8.
ومع ذلك فليس جميع المسلمين يقبلون عقيدة: "أمْيَّة محمد"!
فالبخاري مؤرخ المسلمين هو الذي بدأ الشكوك أو كما يقول المسلمون "الشبهات" بـ" أمية محمد ". إذ أن روايته لـ"حكاية صلح الحديبة" تشير إلى أن محمداً نفسه قد محى جملة "هذا ما قاضى عليه محمد رسول الله" التي اعترض عليها أهل مكة وخط بيده: " هذا ما قاضى عليه محمد بن عبد الله". وفيما بعد أشار الأزرقي في " أخبار مكة" بأن عدد الذين كانوا يتقنون الكتابة والقراءة قبل الهجرة هو أكبر بكثير مما تدعيه "الحكاية الرسمية" للمسلمين والتي هي أيضاً جزء من استراتيجية "إبعاد الشبهات" عن "أمية محمد".
وهناك أيضاً الكثير من المسلمين المعاصرين ممن "عجزوا" عن قبول أن يكون "نبي الإسلام" أمياً.
مثلاً فهد عامر الأحمدي الذي تساءل في (صحيفة الرياض السعودية): هل كان الرسول أمياً؟ وقد خلص في مقاله إلى:
"أخشى أن لا يتفق القول بأمية الرسول مع آيات كثيرة تتعلق بشخصيته المباشرة. فالله أعلم بحال نبيه حين أمره بالقراءة في أول كلمة نزلت عليه (اقرأ). وحين طلب منه جبريل ذلك رفض - من هول الموقف - وقال "ما أنا بقارئ" ولم يقل مثلاً لا أعرف أو لا أعلم.. وبعد أن توالى عليه الوحي لم يتهمه المشركون بالجهل والأمية بل على العكس اتهموه بإتقان حرفة الكتابة (وقالوا أَسَاطيرُ الأَولِين اكتتبهَا فهِي تملى عَلَيهِ بُكرة وَأَصِيلا) وحين أراد الله تزكيته من هذه التهمة ماذا قال؟ (رَسُولٌ مِّنَ اللهِ يتلو صُحفا مطهرة)"![2]
أما د. كامل جميل ولويل فهو حين رفض أسطورة "أمية محمد" يقترح علينا أسطورة أخرى تدل على الفكرة المعاكسة. وتنتهي محاججته بصدد سورة "العلق" على أن محمد لا يمكن إلا أن يعرف القراءة والكتابة هكذا:
"كلنا ندرك أن الخلق من معجزات الله، كيف يأمره بأن يقرأ وهو أمي لا يقرأ ولا يكتب! إن أمر الله نافذ، لقد قرأ الرسول تلك الصحيفة التي عرضها عليه جبريل (ع)، ثم أعلمه تعالى أنه بعد أن يقرأ سيستطيع بفضله أن يكتب، وإلا ما فائدة أن يعلم محمد أن الإنسان يكتب بالقلم".[ 3].
9.
كما نرى من تفصيلات هذه القضية أن "التصريح" و"قبول" حقيقة معرفة محمد للقراءة والكتابة تفتح باب التأويلات بصدد مصادر القرآن على مصراعيها. وإن اتهام قريش بأن القرآن "من أساطير الأولين" يتضمن اعترافاً ومعلومة مقبولة من جانب المجتمع الذي يعيش وسطه من أن محمداً يعرف القراءة.
وهكذا فإن رفض الحقيقة المتعلقة بمعرفة محمد للقراءة والكتابة هي تقنية "منطقية" حاول المسلمون عن طريقها سَدَّ باب تذرع "نُقَّادِ" محمد ببشرية القرآن. وتحوَّل هذا المبدأ فيما بعد إلى عقيدة (صدقها الجميع) ومن ثم تحول إلى قاعدة فقهية تُحَرَّم من خلالها المُحَلَّل وبذلك تبطل الكثير من الأفعال والأقوال والممارسات والأشياء لا لأن الدين قد حَرَّمَهَا (ومن شروط التحريم في عرف الفقه نفسه أن يأتي به نص)، بل نتيجة لــ" تصورات وتأويلات" الفقهاء لا غير من جهة، ومن جهة أخرى هي تقنية تمنح "الفقهاء" حرية التحرك والقرار في عمليات التحريم. وبالضبط هنا تتضح الصورة الحقيقية للفقه: المصدر البشري الإرادي والتأويلي للأحكام الدينية.
10.
إن جوهر قاعدة سد الذرائع هو تحريم ما يُفترض أنه يؤدي إلى الحرام أو إلى الشكِّ في العقيدة. وهذا منطق فضفاض قادر على احتواء الكثير من الظواهر والأفعال والأشياء. ولكننا نرى أن هذه "القاعدة" هي ليست قاعدة تماماً. إذا أنها تخضع للانتقائية كالعادة.
فزراعة العنب، رغم أنها الشرط الحاسم لصناعة النبيذ والخمور، لم يتم تحريمها بحجة أن العنب لا يستخدم في صناعة الخمر فقط.
فلماذا، إذن، يُحَّرمُ الكحول لأغراض التعقيم والاستخدامات المنزلية الأخرى والتي لا علاقة لها بالشُّرْب؟
11.
انطلاقا مِنْ مَثَلِ "أمية محمد" فإن قاعدة "سد الذرائع" كفلسفة دينية (سواء تم الإشارة إليها أم لا) تسعى إلى إخضاع أفعال ونشاطات الإنسان إلى نوع من "الرقابة" ذات التبريرات "المتحركة" و"المتغيرة" استناداً إلى "ما يمكن" أن تؤدي إليه من وجهة نظر اللاهوت الإسلامي. وبذلك فإن "استحداث" المحرمات يكتسب صفة "شرعية" بفتوى من هذا "الشيخ" أو ذاك (بتعبير آخر: بجرة قلم!).
بل أن قاعدة "سد الذرائع" لها وجه تُحَلَّل فيه أفعال ونشاطات معينة إذا ما كانت لصالح سلطة الدولة أو السلطة الدينية، على سبيل المثال استخدام عقوبة "التعزيز" كعقوبة مشروعة في الأفعال و"المعاصي" التي لا تخضع "للحدود"، ويختلف حكمها باختلاف حالة الفعل وحال الفاعل [4]. والتعزيز عقوبة يمكن أن تتضمن الضرب أو الجلد رغم أن "الفقهاء" يدعون بأن الهدف ليس التعذيب.
ولكن ما هي الحدود الفاصلة ما بين الضرب (أو الجلد) والتعزيز؟
وعلى أي أساس يتم تحديد "المعصية" الخاضعة للتعزيز وما هي المعايير الممكنة لمعاقبة "هذا الفاعل" والصفح عن "ذاك الفاعل"؟
وهكذا يتم "تحليل" الضرب مثلاً (مع أن التعزيز يشمل السجن أيضاً) الذي سبق وأن حرَّمه "الشرع!"
هنا تتدخل قاعدة "سد الذرائع" وليس من الضروري أن تكون بالاسم. فالمنطق يؤدي إليها. لأن الأمر لا يتعلق بفعل محدد مسبقاً، كما يقول الماوردي "التعزيز تأديب"[5].
إنها فلسفة دينية إجرائية تُتخذ متى وأينما يتطلب الأمر!
12.
إن تطبيقات قاعدة "سد الذرائع" تكتسب خطورة استثنائية في شروط الحياة المعاصرة. لأنه يمكن أن يقع في شروط القاعدة عدد لا يحصى من الأعمال والنشاطات ومظاهر الحياة اليومية التي تُحَرَّم نظراً للقاعدة المذكورة وهي أعمال ليست محظورة (من حيث المبدأ) ولكن قد تؤدي إلى "الحرام"!
ويمكن أن ننظر إلى هذا النوع من التحريم مثلاً في إطار مستوى واحد فقط من الحياة تتعلق بالرجل والمرأة:
تواجد الرجال والنساء في مكاتب عمل واحدة، وفي قاعات دراسية واحدة؛ جلوس المرأة عي مقعد في الطائرة مجاور لرجل غريب؛ فحص طبيب (رجل) لامرأة؛ النشاطات الرياضية، سواء منها النسوية أو المشتركة مع الرجال؛ دراسة الفتيات خارج البلاد؛ خروج النساء للسوق وحدهن من غير " bodyguard" عائلي على الطريقة البدوية؛ سفر المرأة بلا محرم؛ الخلوة بالأجنبية، وغيرها الكثير جداً.




ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

أحدث المقالات:

كتاب: حكاية الحمار العجيبة الذي قرر أن يكون مؤذناً!

المواضيع الأكثر قراءة:

◄ أربعة مقالات حول: خرافة "الرحمة" في الإسلام!

هل كان آينشتاين مؤمناً؟

مقالات عن الشيعة: اساطير التاريخ وأوهام الحاضر