منع

العلم والدين والدولة [1]: فرضية طاعة الإمام

بوصلة الاتجاهات


1.
هل البرهنة على وجود الله قضية دينية/إيمانية، هي خارج حدود العلم والبراهين العلمية، أمْ على العكس من ذلك، هي قضية علمية، بل وعلى العلم التصدي لها كأية قضية أخرى تتعلق بمشكلات الوجود؟
2.
إنه سؤال طالما تم طرحه من قبل الكثير من الكتاب والعلماء، مثلما تم التغاضي عنه من قبل الكثير من العلماء والكتاب أيضاً!ولا يختلف من حيث المبدأ أولئك الذين تغاضوا عن الإجابة عليه عن أولئك الذين أجابوا بكون الله والدين قضية إيمانية ولا مكان فيها للعلم. لأنَّ الأمر، في الحالتين، يتعلق بنوع من آليات التَّهَرُّب من الإجابة.
3.
ولكن إذا كان تهرب المتغاضين صامتاً، فإنَّه وعندما يكون السائل والمجيب في الحالة الثانية عالِماً، فإنَّ الأمر يثير الشكوك بجدية منطقه العلمي ومدى شجاعته العلمية. وهو في أحسن الأحوال التستر خلف "لا أدرية" مشبوهة.
ربما كان ريتشارد دوكينز من أكثر العلماء المعاصرين صراحة والتزاماً بمبادئ المنطق العلمي وبطرحه الواضح للمشكلة في "وهم الإله": إن وجود الله لا يختلف عن أية قضية تخضع إلى منطق العلم وإن البرهنة على وجود الله أو عدمه هي من صميم العلم.
وهذا هو عين التفكير العلمي.
4.
المشكلة لا علاقة لها بقضية الإلحاد (رغم أنَّ الملحدين وبحكم نظرتهم إلى للعالم أكثر ميلاً لطرح هذا السؤال والبحث عن إجابات مقنعة)، بل بضرورة الإجابة على الأسئلة المتعلقة بقضايا الوجود. إنَّ الإيمان بوجود "الله" أو عدم الإيمان ليست قضية ثانوية لا أهمية لها، بل إنَّ الإجابة على هذا السؤال له تبعات ثقافية وفكرية وسياسية واجتماعية تؤثر بصورة مباشرة في حياة البشر وعمليات التطور. إنَّ الإيمان الشخصي بوجود "الله" شيء والعقيدة اللاهوتية بوجود الله شيء آخر. ورغم التقاطعات المتعددة الخصائص والنتائج بين نوعي الإيمان، فإنَّ العقيدة اللاهوتية تسعى (بغض النظر عن أشكال التعبير) إلى استيعاب الحياة المدنية والسلطة السياسية على حد سواء. 
ولهذا فإنَّ الإجابة على قضية وجود الله أمرٌ يعني الإجابة على قضية شرعية/أو عدم شرعية الادعاء اللاهوتي على التدخل في السلطة المدنية (الأرضية) وتحميل القوانين المدنية بالعقائد والأحكام الدينية. فبطلان وجود الله بطلان هذه الشرعية.
5.
الدين والدولة:
إنَّ المطالبة الملحة للاهوت الإسلامي بأحقية الدين في نظام الدولة لا يختلف من حيث المبدأ عن مطالب الكنيسة (بغض النظر فيما إذا كانت كاثوليكية أو بروتستانتية أو أرثوذوكسية) إطلاقاً. غير أنه ثمة فارق جوهري وحاسم بين نوعي المطالب: هو أن تطور المجتمعات والدول الغربية قد أدَّى بصورة حاسمة إلى فصل الدين عن الدولة وتحوله إلى مبدأ يحظى (على الأقل من الناحية الرسمية) برضى الكنيسة نفسها. لأنَّ التطور الثقافي والسياسي للدولة الغربية جعل تلك المطالب خارج إطار القانون ومنطق التطور الاجتماعي. وربما تتضمن الكثير من الصحة ملاحظة توكفيل كون انفصال الدين عن الدولة يغذي على المدى البعيد نمو تأثير الكنيسة على الناس (أنظر: الديمقراطية في أمريكا). إلَّا أنَّ الكنيسة لم تدرك آنذاك وجهة النظر هذه. لقد كان إصرار الدولة حاسماً وعلى الكنيسة إدراك جدية هذا الإصرار وإلَّا فإنَّ اصطدام الكنيسة بالدولة سيكون لا محالة منه، وهو، في جميع الأحوال، لن يكون في صالح الكنيسة!
كان للكنيسة "عقلاء" استطاعوا رؤية آفاق التطور وضرورة التكيف مع أحكام الواقع الجديد. فهل ثمة وجود لمثل هذا النوع من "العقلاء" في الإسلام؟
6.
للوهلة الأولى يبدو هذا السؤال "معقولاً" و"منطقياً". غير أنه، والحقُّ يقال، سيء ما يكفي لكيلا تتم الإجابة عليه!
فتَكَيُّفُ الكنيسة، وخصوصاً المركز البابوي، لم يكن حصيلة لـ “حكمة" عقلاء الكنيسة فقط، ولا أشكُّ بوجودهم، بل كان أمراً واقعاً مفروضاً لا يمكن المجازفة بالتعارض معه، بغض النظر عن أشكال المعارضة المتطرفة التي حدثت هنا وهنا (كما حصل مثلا في أسبانبا في ثلاثينيات القرن العشرين). 
إنَّ إصرار وعزم الحركة السياسية والفكرية والاجتماعية وما تحمله من ميراث عصر النهضة وعصر التنوير والثورة الفرنسية ما يكفي من القوة والوضوح ما جعل "السلطة البابوية" و"عقلائها" أن يستنتجوا أنَّ "غريزة البقاء" تفرض عليهم إدراك المستجدات التاريخية والخضوع لها: إنه لم يكن اختياراً، بل أمراً لا رجعة فيه!
لقد كانت الدول الغربية تحظى بمشروعية الوجود الذي يستند إلى القوانين والانتخابات وتطور آليات نظم الحكم الديمقراطية وإنَّ هذه المشروعية تتعارض مع سلطة عليا، هي من خارج البنية السياسية للدولة، كسلطة البابا مثلاً. وقد أدركت الكنيسة هذا الأمر وما كان عليها إلَّا الانسحاب.
7.
ولهذا فإنْ كان للإسلام "عقلاء" أمْ لَا فإنَّ الإجابة لا جَدْوَى من ورائها.
فالحقيقة الصَّارخة هي أنَّ الدولة العربية (مهما سُمِيَّتْ) لا تستند إلى أيِّة مشروعية سياسية؛ الدولة العربية هي دولة اغتصاب واستحواذ "زُمَر" عسكرية أو مدنية أو عائلية تسير الحكم بوسائل القمع المنظم والمخابرات، وفي بعض الأحيان عن طريق الرشوة ـ حين تتوفر الإمكانيات الاقتصادية لذلك. 
أمَّا الانتخابات التي تقيمها البعض منها فهي "تظاهرات" مضحكة للتعبير عن قيم "ديمقراطية" لا وجود لها في رؤوس "المنظمين" لها. بل إنَّ أعتى الحكومات العربية هي الأكثر ولعاً بين الجميع في إقامة الانتخابات. فحقيقة كون أغلب الرؤساء العرب لا تنتهي مدة رئاستهم إلا بالموت بسبب الشيخوخة أو الاغتيال أو عن طريق انقلاب كارثي على البلاد، يكشف عن حقيقة "الانتخابات العربية"! 
أما ما يتعلق بحالة "لأمراء!" و"الملوك!" فالأمر لا يختلف: فآليات التصفية الجسدية والاغتيالات والإحتراب ما بين مراكز القوى القبلية/العائلية وإبعاد بعضهم البعض عن مراكز السلطة وتولي العرش هي حقائق يعرفها القريب والبعيد.
8.
إنَّ مصالح الحكومات العربية لم تفترق يوماً عن مصالح مراكز السلطة الدينية الإسلامية. فأنظمة الحكم العربية ما كان لها أن تبقى بدون السلطات الدينية وما كان للأخيرة من وجود بدون سلطات الدولة. وبالتالي فإن وجود مثل هذا النوع من السلطات السياسية بحاجة ماسَّة إلى "ورشٍ متخلفة" لصناعة الأوهام والخرافات تستسيغها النسبة الكبرى من السَّكان الغارقة بوَحْلِ الجهل والأميَّة. والدين الإسلامي يوفر "بكرم" هذا النوع من "الورش"!
9.
فرضية طاعة الإمام السلفية:
وهذا هو بالضبط ما فعله السلفيون فقهياً وعملياً (على اختلاف انتماءاتهم المذهبية) منذ بداية ما يسمى بـ “عصر التدوين". فقد "تفننوا" في إيراد "الأحاديث الصحيحة!" والمبادئ النبوية!" و"الفرضيات الأصولية! في دعم الحاكم الجائر والخضوع للظالم وهو أمر يتناقض إلى أقصى ما يكون التناقض مع أفكار "العدل" و"المساواة" و"الحق" المعلنة من قبل جميع مدونات الإسلام التي يتبجح بها رجال الدين المسلمين وأبواقهم من أنصاف المتعلمين والحاصلين على شهادات الماجستير والدكتوراه بأطروحات من نوع "النجاسة في الفقه الشافعي" أو "أصول الدين الخمسة والتكنولوجيا" وغيرها من السخافات الجامعية!
10.
فمثلما حرصت الدولة على الحضور الرسمي للدين، فإن ممثلي السلطة الدينية وعلى مر العصور حرصوا على وضع فرضيات دينية تدعم شرعية سلطة الخلفاء والسلاطين والحكَّام (بغض النظر عن الأسماء والاتجاهات والطوائف) وتبريرها فقهياً وتسويغ آلِيَّات دينية كانت ولاتزال من شأنها تحسين وجه الدولة البشع ودفع الناس إلى الطاعة وتحمل جورهم.
وقد سار الفقهاء على طرق مختلفة تبدأ بآليات التفسير المضحكة والتأويلات "الانقلابية" وانتهاء بـ “وضع" عشرات "الأحاديث الصحيحة" والمُخاطة على طول وعرض مصالح الحكام ومروراً بآلية "الإفتاء" التي فتحوا لها "دوراً" و"مراكز" وكأنَّ الناس لا همَّ لهم ولا عمل غير الاستفسار عن أحكام النجاسة والحيض!



الصَّلاة[1]: وقود لبقاء الله على قيد الحياة

صلاة جماعة بالأسود والأبيض


1.
الحق، ومن غير مواربة، أنَّ الصلاة "ابتكار" عبقري.
بل لا يوجد، من بين جميع الطقوس التي يسعى اللاهوت الإسلامي إلى تجذيرها في الوعي الباطني للناس الخاضعين للعقيدة الإسلامية، طقس آخر بهذه القوة والقدرة والنجاعة والجبروت على إخضاع المؤمن و"ربطه" بالسلطة الدينية ربطاً محكماً لا انفكاك منه.
2.
الصلاة الإسلامية هي السلاسل المستترة التي تكبل وعي المرء وتحط من قدرته العقلية على التفكير الحر وتقيد إرادته وتجعل منه أداة طيعة بـ"يد" السلطة الكهنوتية.
3.
وخلافاً للصلاة المسيحية مثلاً – وهي صلاة فردية لا ترتبط بمكان أو وقت أو "إمام" ولهذا فإنَّ المؤمن، وحتى الكاثوليكي المتعصب، متحرر لا من قيود شروط الصلاة، بل ومن الصلاة نفسها. فهي "حاجة" سيكولوجية وليس واجب قدري يؤدي تركها إلى الجحيم مباشرة – فإن الصلاة الإسلامية واجب لا يقوم الإيمان بـ"الوحي" بدونه. ولهذا فإن له، كالعادة، قواعد "شكلية" صارمة تحمل في داخلها شروط إبطال مصداقيتها الدينية وإنها محض أداة سياسية للخضوع.
فإذا كانت الصلاة كما يدعون هي "مناجاة للرب" فلماذا تحولت إلى "مؤسسة" عسكرية يسهر عليها رجال اللاهوت؟!
4.
الصلاة الإسلامية، إذن، شرط الإيمان بالرب.
إنه يطلبها ويتطلبها لكي يثبت ألوهيته.
فإي رب هذا؟
إنَّ رباً يعتمد في وجوده ويسعى إلى حالة "الرضى" والسعادة" معتمداً في ذلك على تأدية الصلاة وإنْ يكون موضوعاً للتذكر والفخر والمديح لهو رب بائس ويثير الأسى!
5.
لكن للصلاة وجهاً آخر:
فصاحبنا "رب العالمين!" لا يعمل الخير مجاناً. وكما يقول تشرتشل فإنه "لا يوجد غداء مجاني" فإنَّ هذا الرب لا يطالب زبائنه بالدفع فحسب بل والدفع مقدماً أيضاً!
وهذا مخالف، على أية حال، لشروط التعاقد في البيع والشراء (حتى على الطريقة الإسلامية).
إنَّ هذه المطالبة الملحة بالمديح، من قبل الرب المُفْتَرَض أو المُتَخَيَّل، وكأنه كافور الإخشيدي تكشف بما لا يقبل الشك بأنَّنا أمام كيان ساذج وذي متطلبات لا تقل سذاجة.
6.
خلف الصلاة تستتر ظلال الخوف وليس الإيمان.
وهذه هي المفارقة في علاقة المسلم بربه المُفْتَرَض أو المُتَخَيَّل وهي علاقة غير سوية ومَرَضِيَّة.
فالقوة العاقلة (وأتجرد مؤقتاً من أية تداعيات للعلاقة الديموقراطية) لا يمكن أنْ تستهويها فكرة المديح من أي كان. فالمديح بحد ذاته هو هجاء. إذ لا يمكن أنْ يمدح الشاعر أحداً إلا على حساب آخر بصورة مباشرة أو ضمنية، مستترة أو مكشوفة.
بل أنَّ القوة العاقلة هي قوة مناقضة للتقديس ولا تحتاج إلى مشجعين [fans] يصفقون لها.
7.
ليس ثمة كيان غير السلاطين والاباطرة العتاة [والملوك الأغبياء] يفرضون على رعاياهم السجود أمامهم والزحف على ركبهم ومكالمتهم بالهمس والتبجيل والمديح!
إنه تعبير عن مركب نقص أنْ يطلب "كيان" ما مديحه لكي يرميه لمن يمدحه فتات بركاته.
وهذا ما يجعل فكرة الإله نكتة سقيمة.
إنه صورة وثائقية عن الطبيعة البشرية وليس في الأمر أية غرابة:


فهو صناعة بشرية لم تعد تثير غير الاشمئزاز. وفي اللحظة التي يكف فيها المرء عن ممارسة هذا الخبل فإن "الله" يكف عن الوجود. وهذا ما يوضح الحقيقة الصريحة التي يعرفها الكثير من المسلمين:
"ترك الصلاة" هو من المقدمات الضرورية للخروج من الإسلام - وفي بعض الأحيان هو أقرب الطرق إلى الهروب من مملكة الظلام!





لماذا الحديث عن الإسلام فقط؟

معممون من الخلف امام المهوسين
[سلطة رجال الدين امتداد لسلطة الدولة]

" إنَّ الدولة البيزنطية كانت دولة دينية ممتازة، وذلك لأنَّ المعتقدات الدينية فيها كانت شؤوناً تخص الدولة. لكن الدولة البيزنطية كانت أسوأ دولة"/كارل ماركس

1.
رُبَّمَا يتساءل القارئ: لماذا كلُّ هذا الإصرار على تناول موضوعات تتعلق بالإسلام؟
إنَّه سؤال منطقي.
بدون شكٍّ إن الإجابة عليه لا يمكن أن تكون وحيدة الجانب. فهي قد تتعدد وتتنوع. فمعيار الموقف من الدين لا يتعلق بالموقف العام من الدين فقط: يؤمن المرء أو لا يؤمن. فهذه قضية ذات طابع شخصي والبحث عن تفسير لها، أو الموقف منها، ليس من أهدافنا الآن. 
ولكن مع ذلك، وإذا كان من الصعب تفسير قضية "الإيمان"، فإن تفسير قضية "اللاإيمان" أقلُّ صعوبة وأكثر وضوحاً، مقارنة بقضية "الإيمان"، من ناحية التوصل إلى إجابات أكثر منطقية وأكثر معقولة.
2.
فالمؤمن يكاد يتقوقع على إيمانه ويفقد صلته بالعالم. 
إنه لا يرى التأثير السلبي (وفي أحيان كثيرة الكارثي) للإيمان الديني في التطور السياسي والاقتصادي والاجتماعي. فهو عاجز، بحكم إيمانه، عن رؤية دور الدين. فتصورات الناس عن أنفسهم وعن معتقداتهم لا علاقة لها بوقائع العالم الذي هم جزء منه؛ إنه للأسف لا يرى وقائع العالم هذه. والدليل الساطع على ذلك هو ما نراه وسط مئات الآلاف من اللاجئين المسلمين (حيث يشكل المسلمون العرب الغالبية العظمى1 ) إلى الدول الغربية (سواء أولئك الهاربون من الدولة الإسلامية ـ داعش أو أولئك الهاربون من فساد دولهم وانهيار اقتصادها وأمنها ومن الحروب الداخلية الصغيرة والكبيرة) بحثاً عن مصادر للعيش والأمن على حد سواء. ولكنهم مع ذلك لا يرون في ظروف البؤس التي يعانون منه إلَّا "قضاء وقدراً" من "الله" يمتحن فيه إيمانهم! 
3.
فهم ورغم حقائق الواقع المؤلمة لا يفكرون ولا أرى أنهم سيفكرون يوماً بدور الأسباب العميقة والحاسمة التي تنبع من علاقة الدين بالدولة والدولة بالدين ـ والدين الإسلامي بالذات في هذه الكارثة.
لمْ يسأل أحدٌ منهم: لماذا يبحث المسلمون عن مصادر العيش والأمن في دول يسمونها "نصرانية" و"كافرة" و"ظالمة" و.. و..و..؟
لمْ يسألْ أحد منهم نفسه كيف يحدث هذا، حيث تكون "الدول الكافرة" أكثر شفقة وعطفاً وكرماً من الدول الإسلامية الغنية؟ لماذا لم يهاجروا إلى دول الخليج "المسلمة" والغنية إلى حد التخمة؟
إنهم لمْ يسألوا أنفسهم، "وكما يبدو واضحاً للمطلعين من قرب على مجتمعات اللاجئين" لن يسألوها في يوم ما كل هذه الأسئلة وأخرى غيرها لأنهم واقعون في "قبضة" الدين الفولاذية بفضل الثلاثي الإسلامي: الجهل والأمية والفقر.
إنهم يواصلون طقوسهم الدينية بهدوء وقناعة مخيفتين وعندما يحين وقت الصلاة تراهم على استعداد على فَرْشِ سجادة الصلاة حتى في وسط مركز مدينة بروكسل، مثلاً، وكأنَّهم في ديارهم وقراهم التي طوردوا منها ولم يحدث أي شيء!
4.
إنهم عاجزون أبداً عن طرح الأسئلة، بل إنهم عاجزون حتى عن طرح أبسط الأسئلة بالعلاقة مع أبسط الحقائق: لماذا يحدث هذا معهم؟
لماذا تعمل السلطة الدينية في خدمة الدولة التي ما وجدوا فيهم يوماً وسيلة آمنة للعمل والحياة؟
بل إنهم لا يرون مثل هذه المفارقة لكي يسألوا ربهم:
يا إلهي، إذا كنت هناك وتسمعنا، لماذا تقف مع من يضطهدنا ويدمر حياتنا!؟
يا إلهي، إذا كنت هنا وتسمعنا، لماذا تقف إلى جانب السلطان الظالم ولا تدافع عنا!؟
إنهم ليس عاجزين، بل قد فقدوا القدرة على طرح الأسئلة. لأنَّ الإيمان الديني يغشو أبصارهم ويعميهم. إن طرح الأسئلة الحقيقية والمشروعة هي ليست من مهمة الناس الذين يغرقون أنفسهم بالوهم؛ طرح الأسئلة مهمة للناس الذين لايزالون يفكرون، ويجادلون، ويبحثون عن أسباب الظلم وغياب العدالة: إنهم الناس الذين تحرروا من قيود الدين وفتحوا نوافذ وأبواب عقولهم أمام الحقائق.
5.
لكنَّ "مُجَرَّدَ" عدم الإيمان لا يكفي لكي يدفع المرء إلى البحث والتفكير ودراسة مشكلات الدين. 
فإذا لم يكن يرى المرء الخطر الشامل على الحياة المدنية بسبب الإيمان الديني، كأيمان، وتحول الدين من شأن ديني شخصي إلى ممارسة سياسية قمعية تبرر الوضع القائم ودعم ووجود هذا أو ذاك السلطان (بغض النظر عن الألقاب والمسميات)، فإنَّه يبقى كالآخرين في غيبوبة، لا يرى غير الأحداث المتتالية من غير أنْ يدرك طبيعة الأسباب والمسببات وعلاقتها بالنتائج: فالحقيقة الكبرى هي: "المكتوب على الجبين لابد وأن تراه العين"!
صورة كولاج: الحجاب يتحول إلى قضبان سجن


6.
ينبغي التشديد هنا على حقيقة هامة جداً: إنَّ الخطر الكبير الحقيقي ليس فقط في العقائد الدينية بحد ذاتها فقط، بل وفي الآليات الثقافية والنفسية التي تجعل الناس لا يدركون هذه المخاطر أيضاً. فهناك الملايين من المسلمين الذين لا يقيمون الشعائر الدينية. لكنهم مع ذلك يفكرون وينظرون إلى العالم من خلال "نظارات" الدين! وعندما نقول "نظارات الدين"، فإن المقصود هو الدين الإسلامي، الدين الذي لا يزال رجال لاهوته يدعون الحقيقة المطلقة الشاملة التي لا يمسها الخطأ أو الشكُّ من قريب أو بعيد!
إنه اللاهوت الإسلامي الذي لا يعترف بربِّ غير الله، ولا بنبي غير محمد، ولا بأمةٍّ غير أمة الإسلام!
هذا فكر شمولي لا يدانيه أيُّ فكر شموليٍّ آخر!
6.
وثمة حقيقة ثانية لا تقل خطورة:
إنَّ اللاهوت الإسلامي، وخلافاً لما يسمى "بالأديان الإبراهيمية" الأخرى (اليهودية والمسيحية) يرفض أن يترك الناس وشأنهم، وتحولت الدولة وقوانينها ومؤسساتها إلى أدوات فَرْض وقمع في يد السلطة الدينية (التي تختفي في الظل في أكثر الأحيان) بصورة مباشرة أو غير مباشرة.
فالإسلام هو الدين الوحيد في عالمنا المعاصر الذي لم يكتف بنفسه كدين!
إنَّه الدين الوحيد الذي قرر شيوخه ـ هكذا قرروا بـ “أنفسهم"، بأنَّ الإسلام دينٌ ودُنْيَا!
وحينما يَعْبُر الدين إلى ما وراء حدوده الإيمانية ـ الشخصية ويستعمر الحياة المدنية، فإنه يتحول ببساطة إلى قضية سياسية قمعية تشكل خطراً مستديماً على حياة الفرد والحرية الفردية وحق الاختيار في الحياة. وهو في "الحالة الإسلامية" لم يعد مجرد "خطر"، بل نتائج مرئية قد تركت آثارها في مختلف مجالات الحياة الروحية والثقافية والاقتصادية والاجتماعية، بل وحتى العلاقات الخارجية مع الشعوب الأخرى.
7.
إن "التطور" في المجتمعات العربية كان قاصراً إلى حدود مأساوية في فصل الدين عن الحياة المدنية، كما حصل في المجتمعات المسيحية على سبيل المثال. لقد فشلت (وما كان لها إلَّا أن تفشل) محاولات من يسمون بـ “رواد عصر النهضة" في أهَمِّ مهمة كان ينبغي التصدي لها: فصل الدين عن الدولة وإرساء أسس دول حديثة تستند إلى القوانين المدنية من غير أية شروط وافتراضات لأهمية الدين2.   
8.
سواء كان للدين أهمية أو لا، فإن هذا لا يعني أن تكون القوانين (وخصوصاً الدساتير) أسيرة العقيدة الدينية، كما لم يحصل هذا مثلاً في أوربا. إذ لا يوجد ولا قانون واحد، ولا مرسوم أو قرار من أية جهة في دول الغرب (المسيحية) تُفرضُ على المواطن أي نوع من العقائد الدينية وما ينتج عن العقائد الدينية من التزامات سلوكية وثقافية وطقسية، بل وحتى مظهرية. بل يُحرَّم بقوة القانون على الكنيسة، وأيِّ مركز ديني آخر، فرض أي نوع من الوصاية على/ أو التدخل في حياة الأفراد بأي شكل كان وبأي وسيلة كانت.
فحدود الدين هو الحياة الشخصية للناس والكنيسة (أو أي مكان عبادة آخر). وما هو خارج حدود هذين المجالين هو الحياة المدنية بكل تناقضاتها وتمايزها عن العوالم الدينية ولا يخضع الفرد لأي قوانين غير القوانين المدنية التي يتم التصويت عليها داخل البرلمان ولا يؤخذ، من حيث المبدأ، بنظر الاعتبار مواقف الكنيسة3.
9.
كما أننا غالباً ما نَنْسَى (أو نَتَنَاسَى برشاقة!) بأنَّ الدول العربية تتميز بتعدد أثيني وديني يعود إلى فترات سبقت ظهور الإسلام نفسه. فما هو هذا الامتياز الذي تمنحه الدول العربية للإسلام؟ 
وما هو المنطق الذي يبرر الإقرار العبثي الذي يرد في "الدساتير" العربية بصيغ مختلفة بأن "الإسلام هو دين الدولة"!
كيف يكون الدينُ دينَاً للدولة؟
الدولة كِيَانٌ سياسي لا انتماء ديني له، ولا ينبغي أن يكون. الانتماء الديني يتعلق بالبشر والدولة هيئة سياسية تقف خارج الانتماءات الدينية وبغض النظر عن نسبة المسلمين (أو الذي يدعون أنفسهم مسلمين) في كل دولة على حدة.
إرهابي إسلامي يلوح بسكين طويلة
10.
إن تاريخ الدولة العربية "الحديثة" خلال القرن العشرين يكشف بما لا يقبل الجدل الدور التسلطي لللاهوت الإسلامي واستحواذه على مطلق الحقوق مقارنة بالأديان الأخرى (كالمسيحية واليهودية والمندائية والبهائية واليزيدية وغيرها). وبالإضافة إلى هذه الأديان فإن الإسلام نفسه ينقسم إلى طوائف كثيرة (كالسنة والشيعة الإثني عشرية والإسماعيلية والإباضية) وحين نجعل "للدولة ديناً" فأية عقيدة دينية ستكون هي الغالبة؟ 
إنَّ هذه "الفلسفة اللاهوتية" لم تبق في القرن العشرين، بل انتقلت إلى القرن الواحد والعشرين بأكثر قوة وزخماً!
إنَّنا نعيش خارج التاريخ!
 11.
هذه هي مخاطر الإسلام.
لقد تحوَّل اللاهوت الإسلامي، رغماً عن أنوف الشعوب، إلى قوة سلطوية توازي قوة الدولة، وهو في بعض الدول العربية المتخلفة ثقافياً واجتماعياً (لا اقتصاديا) حل محلها أو قبع في الظل يؤثر على مجرى الحياة بأسوأ الأشكال والصور.
الإسلام ديني شمولي: وهذه هي مأساة الدول الإسلامية. وليس ثمة أي نوع من الإصلاحات يمكن أن تخفف من وطأة السلطة الإسلامية، كما يدعي البعض أو يسعون إلى ذلك. 
الإسلام لا يفقه معنى وقيمة التعدد العقائدي والروحي للبشر. 
الإسلام يراهن كالمدمن على المراهنات: إمَّا كل شيء أو لا شيء، فـ"الدين عند الله هو الإسلام"!
ولا قيمة لأي نوع من الإصلاحات. 
لابد من حلٍّ جذريِّ حاسم وواضح وضوح الشمس.
 ولا حلَّ آخر غير ما حصل في الكثير من بقاع العالم: الدين قضية شخصية ولا دور للاهوت الديني في سياسة وتدابير وقوانين الحياة المدنية.
12.
هذه هي الإجابة على السؤال المطروح: لماذا كلُّ هذا الإصرار على تناول موضوعات تتعلق بالإسلام؟
ولأن الإسلام يتظاهر بمظهر احترام البشر والقوانين والعدالة والتطور والعلم.. الخ من الإدعات، فإن الحديث عن الإسلام يجب أن يتعدى المظاهر الخارجية له والتغلغل في بنيته الداخلية وفي آليات عمل مختلف عقائده الإيمانية والتشريعية من أجل الكشف عن العبثي واللامعقول والأوهام والخرافات التي تشكل قاعدة لكل بناءه. ولا يستقيم هذا الأمر إلَّا بالتغلغل في نصوصه والكشف عن تناقضاتها والبنية التاريخية المشبوهة لكل ما يسمى بالنصوص المقدسة والأبطال المشبوهين لما يسمى بـ “الأحاديث" والرموز المشبوهة وخرافة "الفقه" والأسماء المقدسة (الصحابة والتابعين وتابعي التابعين ووالائمة المعصومين والأولياء الطالحين وغيرهم).
لا طريق آخر غير الكشف عن الوجه الآخر للإسلام: 
الوجه الحقيقي المعادي لحرية الإرادة البشرية والتطور الروحي للناس خارج أية ضغوط أو شروط أو مواضعات دينية وأخلاقية مسبقة.
13.
لهذا كله تحول الحديث عن الإسلام إلى قضية سياسية: 
إنَّ الإسلامَ سياسة!
فالإسلام كفَّ منذ قرون كثيرة عن كونه "مجرد" عقيدة دينية. بل إنه يرفض، من خلال معتنقيه، أن يكون مجرد "دين" من الأديان. فالأيديولوجيا الإسلامية أكثر تطرفاً حتى من أعتى الطوائف الدينية المسيحية تطرفاً كـ"اليعقابة". لقد ظلَّ الإسلام قابعاً في كهوفه ولا يرى حركة التاريخ والفضل في ذلك يعود إلى الدولة.
ولأنه لن تقوم قائمة للإسلام بدون "الدولة" فإن "فكَّ" ارتباط الإسلام بنظام الدولة السياسي والتعامل مع الإسلام كأي دين آخر هو الخطوة الأولى للتصدي للمخاطر الكارثية للإسلام في المجتمعات العربية. إذ أنَّ الإسلام لا يقبل الإصلاحات. فالعقيدة المطلقة بالحق الإلهي والسنة المحمدية تجعلان أي إصلاح كتنازل عن هذه الحق. 
إنه حق منحوه لأنفسهم ولعقيدتهم بحكم تواطؤ الدولة العربية. ولهذا فإنَّ الدولة هي الوجه الرسمي للدين والدين هو السلطة "الروحية" للدولة العربية. 
والحل هو فكُّ هذا الارتباط.
إنَّ فكَّ الارتباط هذا لن يكون من غير التغييرات السياسية الجذرية!
هذا هو مَقْتَلُ الإسلام: تغيير أنظمة الحكم السياسية وإزالة غطاء الدولة عن السلطة الدينية والتي هي سلطة الدولة. وحين تكف الدولة بأن تكون خادماً للدين فإن الدين يضحى من غير "سلطة". وهذه هي التجربة الغنية للكثير من الشعوب المتقدمة.
14.
إنَّ فكَّ ارتباط الدولة بالدين هو حدث في جوهره لا يعني رفض الدين من قبل الدولة ـ أي لا يعني مطاردة الدين، فإن هذا لم يحدث لا في أمريكا ولم يحدث في الدول الأوربية خلال القرن العشرين. إنَّ ما حدث هو إن الدولة في قرارتها لم تعد تخضع للكنيسة بأي حال من الأحوال وحلت القوانين المدنية المُقّرَّة من قبل البرلمانات المنتخبة ديموقراطياً محل الكنيسة. وهكذا تحرر الفرد من سلطة مطلقة لا تقبل النقاش وتجعل من حقها واجبات للجميع. إنَّ متطلبات العقيدة المسيحية هو أمر لا يخص الأفراد، فهذا من واجبات الكنيسة ـ والأمر بالنسبة للمجتمع المدني سواء: أقامت بها أم لم تقم! 
لا حق للكنيسة على المجتمع ككل ولا على الأفراد أنفسهم. فالأفراد يتحملون مسؤولية أعمالهم أمام القوانين المدنية، أما الواجبات والتصرفات والالتزامات الأخلاقية الدينية فليس من اختصاص القوانين، بل ليس من اختصاص أية جهة في الدولة. إنها من اختصاص الفرد: سواء التزم بها أو لم يلتزم. بل إنَّ من الدول الأوربية (وفرنسا مثالاً نموذجاً) تحرم بقوة القانون أية مظاهر ورموز دينية في الحياة المدنيةـ
الدين في البيت والكنيسة لا غير!
وهكذا يتحرر الفرد من براثن الدين: 
الدين اختيار شخصي لمن يؤمن، أما الأفراد الآخرين فلهم ما يختارون، وهو حق مَحْمِيٌّ بقوة القانون وإرادة المجتمع. وعندما يكون للفرد حق الإيمان فإن حق "عدم الإيمان" لا يقل أهمية بل إنه يأتي في المقدمة.
فحق "عدم الإيمان" يضع  "الإيمان" في مكانه المناسب:
حق شخصي لا حق عام. 
15.
والآن:
هل اتضحت الإجابة؟!


1. تشير آخر المعلومات من هيئة الإحصاء الأوربية الرسيمة  إلى أن عدد اللاجئين في دول الاتحاد الأوربي قد وصل خلال عام 2017 مثلا إلى (1400000) لاجئا، من 425880 لاجئاً من سوريا، و159425 لاجئاً من العراق، و226410 لاجئاً من أفغانستان.
2.  سوف نبحث هذا الموضوع على انفراد في مدونة قادمة.
3.  الإمكانية الوحيدة لتدخل الكنيسة بمضمون القوانين يعتمد على تأثير "اللوبي" المتدين. ورغم ذلك فإن أي قانون يسيء إلى حقوق الأفراد، جميع الأفراد، ليس من السهل المرور بسبب مواقف مؤسسات المجتمع المدني والمنظمات اللاحكومية الأوربية والمحلية والمحكمة الدستورية وغيرها من الإمكانيات والوسائل التي تغيب كاملة في الدول العربية
..

 

أحدث المقالات:

كتاب: حكاية الحمار العجيبة الذي قرر أن يكون مؤذناً!

المواضيع الأكثر قراءة:

◄ أربعة مقالات حول: خرافة "الرحمة" في الإسلام!

هل كان آينشتاين مؤمناً؟

مقالات عن الشيعة: اساطير التاريخ وأوهام الحاضر