حكاية صورة:
لقد تصفحت طويلاً مجاميع الأعمال التشكيلية وصفحات الفن التشكيلي والمتاحف العالمية في فضاءات الانترنت بحثاً عن عائشة "الحُمَيرَاء".
لم يكن البحث سهلاً.
في الآونة الأخيرة وفي اثناء عملية الإطلاع على ما كُتب عن عائشة في كتب السنة والشيعة متقصياً السيرة الأدبية الإسلامية عنها والسعي إلى العثور عما ينقض الفرضية التي تدور في ذهني (فأنا لا أبحث عما يلائم فراضياتي) تشكلت في رأسي صورة حيَّة لها – للصبية التي اُخْذتْ عنوة من بيت أمها وأبيها كما يؤخذ الحمل الصغير إلى المذبحة.
كنت أراها حتى أكاد أحس بوجودها أمامي وكأنني أرى صورتها تمتزج بسطور النص الذي اقرأه على شاشة الكمبيوتر.
وقد أوصلني البحث بالصدفة إلى هذه اللوحة التي لم أكن أعرف عنها أي شيء مطلقاً.
- إنها هي!
هتفت بصوت مسموع.
ثمة شيء في معالم هذه الفتاة يعبر عن الرفض والاستنكار والامتعاض.
إنه حوار صامت مع مَنْ يقف الآن [وأبداً] أمامها ويحدثها محاولاً إقناعها، أو أجبارها على القبول والخضوع. أليس الدين خضوعاً، وزوجها المستقبلي نبي هذا الدين؟!
وحالما بحثت عن قصة هذه اللوحة تبددت دهشتي:
إنها “هيلين طروادة المختطفة" للرسام البريطاني Anthony Frederick Augustus Sandys [1829-1904]!
وليقل القائل بأنها صدفة!
إنها "الحُمَيرَاء" أو صورة لها سافرت عبر التاريخ حتى تجسدت في صورة هيلين طروادة [أو بالعكس – من يدري؟].
فهل ثمة علاقة سرية داخلية تربط ما بين هيلين وعائشة؟!
1.
هل كانت عائشة تؤمن بنبوة محمد حقاً؟
هذا سؤال سوف أردده على امتداد سلسلة المقالات هذه [البحث عن عائشة] وليس لدي الآن أيُّ أمل واقعي في التوصل إلى إجابة مُرْضِيَة.!
هي مجازفة لكي أجيب على هذا التساؤل.
إنه واحد من الأسئلة العصية على الإجابة. إذ ليس لدينا إلا فِتاتُ معلومات وأطنان من الأحاديث والروايات الكاذبة. وأكذب هذه الروايات على الإطلاق كتب السنة والشيعة المعاصرة التي قررت أن تعيد كتابة "التاريخ" بأسوأ الأدوات وهو التقديس النقلي التسليمي وبأكثر الأساليب الأدبية سذاجة حتى وصل بهم مرض التمجيد إلى تأليف كتاب من نوع "موسوعة فقه عائشة أم المؤمنين"! باعتبارها محدثة وفقيهة وهي المرأة التي أسْتُلبت طفولتها وتبدد شبابها وانتهت إلى شيخوخة لا نعرف عنه شيئاً أكثر مما قالته كتب المسلمين.
فأين تثقفت هذه الصبية بين عدد من "الضرات" [للمعلومات: يقول الفقه بأن امرأة الزوج سميت ضرة لأنها من المضارة فماذا لو كن عشرة أو أكثر؟!] التي لا يعرفها حتى السنة أنفسهم؟!
مثلما كانت حبيسة البيت ولم يقل أحد أنها تعلمت الكتابة والقراءة [فزوجها أمي وضراتها أميات]!
2.
في أصول البحث ثمة طريقان أساسيان:
الطريق الأول استقرائي أنْ نجمع الحقائق الصغيرة شيئاً فشيئاً حتى تكتمل الصورة وتتبدى معالمها. وهذا ما ليس بالإمكان. فمن أين لنا بهذه الحقائق (ومهما صغرت)؟
فنحن لدينا "فتات" من المعلومات الصغيرة وهي لو كانت فتات خبز فإنها لن تشبع حتى عصفوراً صغيراً بائساً!
فليس في حوزتنا غير سيرة أدبية:
كتبها العشرات؛
وحررها العشرات؛
ونقحها العشرات؛
ودونها العشرات؛
وأعاد تدوينها العشرات عن أحداث مفترضة وشخصيات غامضة!
أما الطريق الثاني فهو استنباطي منطلقين من "حقيقة" يتفق عليها جميع المسلمين وهي حقيقة الطفلة التي اغتصابها كهل ساعين إلى إزالة ركام الأكاذيب التاريخية المتراكمة الواحدة تلوى الأخرى حتى نصل تدريجياً إلى ما تبقى من الحقيقة التاريخية.
فهل ثمة حقيقة بقيت من ذلك التاريخ؟
3.
فعائشة ومهما تأملنا فتات المعلومات التي ترسم صورتها فإنها ستبقى لغزاً عصياً على الحل والفهم على حد سواء. فهي إنْ كانت جزءاً من التاريخ حقاً فإن ما كان يعتمل في داخلها لهو صعب على القول وأمر عميق لا يمكن التصريح به من قبلها.
إنني أشَكُّ بكل ما أمتلكُ من ملكة الشَّكِّ (وفي رأسي الشيء الكثير) بكل "أحاديث عائشة" التمجيدية لمحمد. إنَّ عائشة إن قالت يوماً لأحدهم شيئاً فإنها لم تقلْ إلا جزءاً يسيراً جداَ مما لفقه المحدثون والأفَّاقُون وفقهاء السلاطين وأنصاف المثقفين. وإن هذا الشيء القليل لا يعدو أن يكون أموراً تتعلق بحياتها الشخصية الصعبة وعلاقتها بمحمد بن عبد الله وبنسائه الأخريات وحريمه. وإنَّ ما وصل إلينا من هذا لهو قليل – بل لم يصل منه إلا النزر اليسير إذا ما أخذنا بنظر الاعتبار البخاري ومسلم مثلاً.
أما ما كتبه الشيعة عن عائشة فإنَّ الروح الهجائية [التي تصل عند بعض الكتاب إلى حد الكراهية المطلقة لعائشة مثل كتاب "الفاحشة: الوجه الآخر لعائشة"] المتعلقة بموقفهم منها تجعل ما ينقلونه عنها ليس أقل تعقيداً مما يقول السنة المدَّاحون. فهم كذابون بطبيعتهم اللاهوتية.
إذن:
كل ما كتب تمجيداً لعائشة هو عقيدة دينية سنية ولا يستند إلى التاريخ.
وكل ما كتب تشويهاً لعائشة هو عقيدة دينية شيعية ولا يستند إلى التاريخ.
ولم يتبق لنا غير المادة الأدبية في السيرة الإسلامية التي نحاول "اقتناص" ما يمكن أن يشكل صورة عائشة الحقيقية.
4.
هذه هي صورة عائشة إذن:
غاضبة، مستاءة، يتطاير الشرر من عينيها.
فقد اغتصبوا إرادتها؛ وانتهكوا حقها في الطفولة – وهو حق أعلى من حقوق البشر جميعاً وأسمى من جميع المقدسات والمبادئ وقواعد الأخلاق والضمير؛ وها هم يقودونها عنوة لكي تكون محظية بناء على إرادة عزوها إلى خرافة أطلقوا عليها اسم "الله" ومنحوها صلاحيات وحقوق تخول القتل واغتصاب الأطفال ورجم النساء الفقيرات اللواتي لا أحد يدافع عنهن [لا توجد معلومات عن امرأة غنية أو ذات سلطة تم رجمها وهو النوع ليس أقل فحشاً وتهتكاً من النساء الفقيرات]، غير أن من نفذ كل هذه الأحكام كانوا من البشر!
5.
ها أنا أنتهي من ملاحظاتي على الصورة.
والحق أني لأول مرة أبدأ موضوعاً لا أعرف نهايته ولا النتائج التي سأتوصل إليها. ففي رأسي يلفُّ تساؤلٌ ويدور من غير هوادة. ولا تبدو الإجابة في متناول العين والفكر:
هل كانت عائشة تؤمن بنبوة محمد حقاً؟
الحلقة القادمة:
البحث عن عائشة [3]: الاغتصاب
الحلقة السابقة:
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق