منع

الإجماع: فكرة منافية للمنطق العقلاني وقوانين العلم [2]


1.
من العبث مناقشة قضية "الإجماع" بمعزل عن "موضوع" الإجماع نفسه. فهي قضية "لاهوتية" يتم الاتفاق عليها "لاهوتياً". وهذا يعني أنَّ قضية "الإجماع" قائمة في ذات الموضوع "المجمع" عليه.
وكل "إجماع" هو "إجماع" باطل وعلى موضوع باطل يحمل في نفسه عقيدة الإجماع:
فــ"مجتهدو أمة محمد" لم "يجتمعوا" يوماً على قضية تتعلق بحرية البشر،
أو ضِدَّ سلطة الظلم والجور،
أو دفاعاً عن كرامة الناس،
أو تأييداً لقضية عادلة،
أو في مصلحة فقراء المسلمين والبؤساء والمطرودين والمنفيين من ديارهم،
أو ضِدَّ تجاوزات المتنفذين والأغنياء وأصحاب السلطة،
أو تسهيلاً لحياة الناس،
أو اعترافاً بالخطأ،
أو تصديقاً لحقائق مدعومة بالوقائع وتفنيداً لأكاذيب دينية صريحة،
ويمكن المضي إلى ما لا نهاية!
- كلا!
إنَّهم "يجتمعون" على قضايا تتعلق "بالنجاسة"،
أو فيما إذا يجب تحريم لحم الخنزير مع شحمه أم لا،
وهل"حيض النساء" نجاسة؟
أوتحريم هذا الأمر وتقنين ذاك،
واللف والدوران حول تفسير ما لا معنى له في القرآن،
وتحليل ما ظهر لهم فجأة بأنه مفيد،
وقبول ما لا يؤثر في مصالحهم،
ورفض ما يمنح الناس الحرية،
والاتفاق والاختلاف على قرآن لا نهاية لمشاكله التفسيرية،
وتوضيح ما لا قيمة له،
وتحشيد الآراء ضد أعدائهم الفقهيين،
وغيرها من عالم خرافاتهم الواسع!
2.
إنَّ الإجماعَ لغةً، كما يرد في القاموس المحيط، هو "اتفاقُ الخاصَّة أَو العامَّة على أَمرٍ من الأُمور"، وعُدَّ ذلك دليلًا على صحته. ويَقْصُرُه "فقهاء الإسلام" على "اتفاق المجتهدين" في عصر على أَمر دينيٍّ، ويُعَدُّ أَصلًا من أُصَول التشريع.
ويستجيب هذا التعريف اللغوي في خطوطه العامة إلى تعاريف "الفقهاء" أنفسهم لمصطلح "الفقهاء". فالإجماع بالنسبة "للجمع الغفير من علماء الأصول" هو "اتفاق مجتهدي أمة محمد بعد وفاته في عصر من العصور، على حكم شرعي في واقعة من الوقائع"[1]. ويحتوي هذا التعريف على منطق تعريف الغزالي للإجماع باعتباره اتفاق إمة محمد خاصة على أمر من الأمور.
3.
هنا يصطدم المرء، أول ما يصطدم بشكلية التعريف وانتقائية عناصره. فهو:
أولاً، لا يتعدى إجماع "مجتهدي أمة محمد" بعد وفاته.
فَمَنْ هُمْ هؤلاء "مجتهدو أمة محمد" ؟ وما هي الطريقة الإجرائية التي تحددهم من جهة وكيف يتم استشارتهم فيها في بقاع متباعدة؟ وما هي الكيفية التي توصلوا إليها آنذاك في هذا الإجماع رغم اختلاف المدارس فقهية (وفي كثير من الأحيان تكون متناقضة) والطوائف دينية التي تَدَّعِي كل طائفة منها بأنها وحدها حاملة الحقيقة ومدافعة عن الدين القويم؟!
بل حتى لو تم طرح السؤال في إطار القرن الواحد والعشرين - قرن التطور العاصف لوسائل الاتصال، فما هي الطريقة الإجرائية التي تُتخذ للوصول إلى "إجماع" ما (إذا ما تم التوصل إلى مثل هذا "الإجماع") أو التي يمكن أن تُتخذ بالمستقبل بالعلاقة مع قضية ما؟
إنه لمن السُّخُفِ والخِفَّةِ العقلية الادعاء بأنَّ "فقهاء الإسلام" في تلك العصور سعوا فعلاً وحقيقة إلى استشارة بعضهم البعض.
يقول احمد عبد الموجود في كتاب "فقه الزكاة":
[ ... لأن بعض الفقهاء نقل الإجماع في مسائل ثبت فيها الخلاف عند غيرهم، وسبب هذا: أن بعض العلماء المجتهدين في العصور الأولى كانوا منتشرين في عامة الأقطار والبلدان، وكان من الكثرة بحيث يتعسر معرفة أقوالهم في كل مسألة اجتهادية، وهذا ما جعل الأمام أحمد يقول: "من أدعى الإجماع فهو كاذب، لعل الناس اختلفوا ما يدريه". ثم يورد المؤلف أمثلة كثيرة "ادعى فيها الإجماع أو قرر عدم العلم بالخلاف، ومع هذا ثبت الخلاف".[2]
ومن أسباب خرق الإجماع، في رأي محمد الخضيري، هو:
"الاعتداد بالقول الشاذ، أو بما يسمى: "زلة العالم"، حيث يذكر بعض المفسرين الخلاف في مسألة قد وقع فيها إجماع سابق، بناء على اعتبار قول لا يعتد به، لشذوذه.
وقد قرر الشاطبي: "أن زلة العالم لا يصح اعتمادها من جهة، ولا الأخذ بها تقليداً له، وذلك؛ لأنها موضوعة على المخالفة للشرع". [3]
ورغم سذاجة حيلة " زلة العالم" التقنية، فإن الأمر الذي لا جدال فيها هو: خرافة الإجماع.
إنَّ ما يحدث عملياً لا يتعدى موافقة كل واحد من هؤلاء "المجتهدين!" معَ واحد آخر مِنْ الذين سبقوه بالقول. وهكذا حصل "الإجماع". وحتى يكون لقضية هذا "الإجماع" وجهاً فقهياً وضعوا له ما "تيسر" لهم من "القواعد" التي كانوا ولا يزالون يخرقونها، كما أشرت إلى ذلك منذ قليل.
ثانياً، وإذا ما تم الاعتراف "شكلياً" بضرورة "إجماع" الخاصة والعامة، فهو اعتراف فاسد لا وجود له تماماً من الناحيتين النظرية والعملية. فالادعاء بـ"استشارة" العامة في القضايا الفقهية والدينية هو محض ديماغوجية رخيصة يرفضها الفقه الإسلامي نفسه من حيث المبدأ.
4.
والأسئلة التالية تفقأ عيون الفقهاء:
هل المذاهب السنية على اختلاف منطلقاتها وشدة تمسكها بعقائدها (الحنفية والمالكية والشافعية والحنبلية) متفقة فيما بينها من جهة وما بينها وبين الظاهرية في مواضيع الإجماع من جهة أخرى؟
وهل جميع هذه المذاهب السنية متفقة مع المذاهب الشيعية؟
وهل المذاهب الشيعية متفقة فيما بينها على مواضيع الإجماع؟
وهل الأسس التي تستند إليها كل هذه المذاهب، سنية وشيعية، متشابهة؟
5.
إنَّ قضية "الإجماع"، وكما خلصت في جزء الأول من هذا المقال، ليست مجرد "قاعدة فقهية" لإصدار الأحكام، وبالتالي يمكن الاعتراف بها أو لا (أو وضع شروط صارمة لتطبيقها أو لا)، "الإجماع" أداة لاهوتية سلطوية سُنِيَّة المنشأ (ومن ثم تلقفتها الشيعة) تسعى إلى فرض الأحكام الفقهية في مجالي الدين والدولة من جهة، وهي قاعدة لاهوتية منافية للعقل من جهة أخرى. وهي لا تخرج عن إطار فكرة الإجماع/الاتفاق في أي مجال من مجالات الحياة.
وإذا صَحَّ الإجماع في مجال من مجالات الحياة المختلفة فإنه، لا شكَّ، يَصُحُّ التفكير في "الإجماع اللاهوتي" والتفكير في شروطه وهو أمر من الصعب تصوره! ففكرة الإجماع في شروط الحياة المعاصرة، من حيث المبدأ، هي فكرة مناقضة لحرية الرأي ولمبدأ التعددية على حد سواء. بل وحتى في العلوم الطبيعية فإن "إجماع" العلماء يكون دائماً إجماعاَ مشروطاً بالكثير من العوامل والظروف ذات الطابع العلمي البرهاني، كما أن آلية الاختبارات العلمية في قضية ما يمكن أن تنقض هذا الافتراض أو ذاك والتوصل إلى افتراض جديد يخضع للدراسة والاختبار.
ولهذا فإنَّ "الإجماع" الديني قضية يرفضها المنطق العقلاني جذرياً وهو لا يوجد إلا في رؤوس "الفقهاء" الذين ما فقهوا إلا ما "فقهوه" ولا شيء آخر!



[1] موسوعة الإجماع في الفقه الإسلامي، سعدي أبو حبيب، دمشق ط4 2011، ص26
[2] فقه الزكاة، احمد عبد الموجود، الجزء 1
[3] الإجماع في التفسير، محمد بن عبد العزيز بن أحمد الخضيري، دار الوطن للنشر بدون تاريخ، ص 117


أحدث المقالات:

كتاب: حكاية الحمار العجيبة الذي قرر أن يكون مؤذناً!

المواضيع الأكثر قراءة:

◄ أربعة مقالات حول: خرافة "الرحمة" في الإسلام!

هل كان آينشتاين مؤمناً؟

مقالات عن الشيعة: اساطير التاريخ وأوهام الحاضر