[مشهد من مسرحي "في انتظار غودو:]
1.
إذا ادعى أحد بأنه قد اتصل بي تلفونياً فإنني سأجد معلومات عن ساعة وتاريخ الاتصال في جهاز التلفون.
وإذا ادعى أحد بأنه زارني في البيت لكنه لم يجدني، فإنه لابد أن يكون قد ترك رسالة ما على الباب.
وإذا ما كان هذا الشخص يمتلك مفتاح بيتي، فإنني من غير شك سأجدُ بعض الآثار لتواجد هذا الشخص في البيت - بل هو الذي سيتركها عمداً حتى يخبرني بأنه كان في البيت (طبعاً هذا مثال سابق على ظهور التلفون النقال بآلاف السنين!). أما إذا كان لصاً، تسلل خفية، فإنني سأعرف بوجوده من خلال المفقودات!
وإذا كانت قد هبت خلال الليل عاصفة مدمرة لكنني كنت تحت تأثير دواء مخدر (!)، مثلاً، فأنا سأرى مخلفات العاصفة من خلال الأشجار المُقْتَلَعة وفي الأضرار الواضحة على سقوف البيوت وغيرها الكثير.
وإذا كانت السماء قد مطرت ثلجاً خلال نومي بعد منتصف الليل ولم أشعر بذلك (!)، فأنا في الصباح عند الذهاب إلى عملي سأرى كيف يغطي الثلجُ الشوارعَ وسقوف البيوت والسيارات.
ولحد الآن أتحدث عن أحداث يومية بسيطة يقودني المنطق إلى حقيقة حدوثها رغم أنني لم أكن شاهداً. والسبب بسيط للغاية: لأنها تترك آثاراً تخبرني عن نفسها.
فكل حدث يترك أثراً يمكن اكتشافه بطريقة أو أخرى. وإذا ما استخدمنا لغة التحقيقات الجنائية فإن كل فاعل جرمي يترك توقعيه على مكان الجريمة!
ونحن لا نرى بعض التفاعلات الكيميائية ولكننا نستطيع رؤية نتائجها.
كما أننا لا نرى حركة الأرض حول الشمس ولكن نستطيع إدراك وتلمس واختبار هذه الحركة بوسائل بسيطة أو معقدة.
بل نحن نستطيع معرفة مسار النمل عن طريق الإنزيمات التي يتركها على مساره.
هل من الضروري الاستمرار بسرد حقائق الحياة البسيطة؟!
وها نحن نأتي إلى مشكلة "الله"، وعندما أقول "مشكلة"، فإنني أعني مشكلة المؤمنين. فقد آمنوا بشيء من غير تروٍ ولا دراية ثم اكتشفوا فيما بعد بأنهم عاجزون عن البرهنة على وجوده!
2.
حسناً، هل خاطب هذا "الإله المُدَلَّل" (هو مدلل لأنه لا ينجز البرهنة على وجوده بنفسه!) البشر في يوم ما أم لم يخاطب أحداً قطُّ؟
في القضية احتمالان: إما أنه كان قد اتصل بالبشر (ولن يره أحد، كاللص المتسلسل) وإما لم يتصل بأحد مطلقاً.
- فإذا كان "الله" قد نزل من حيث "يستوي على عرشه" وقرر مخاطبة البشر فما هو الدليل على ذلك؟
إن لعبة الأدلة التي يستلها المسلمون من "القريان" و"الحديث" هي لعبة مملة، عليهم لعبها وحدهم مع أنفسكم إن شاؤوا، ولكن لا تقترحوها علينا!
عليهم تقديم دليل"حسي" واحد أن إلههم كان هنا على الأرض خلال تاريخ دام مئات الآلاف من السنين. أنا لا أتحدث عن حقبة يوم واحد حيث يصعب تقديم الأدلة على مخاطبته للبشر، بل تاريخ عظيم لا نستطيع، نحن البشر، حتى تصوره.
نريد أدلة قابلة للاختبار والتحليل حتى لو بلغت أقل من 0.1 % من الأدلة التي في حوزتنا على وجود وحياة ولغة السومريين؟
نريد أدلة قابلة للاختبار والتحليل حتى لو بلغت أقل من 0.1 % من الأدلة على وجود وحياة ودمار الديناصورات؟
نريد أدلة قابلة للاختبار والتحليل حتى لو بلغت أقل من 0.1 % من الأدلة على وجود سلالات الملوك الذين حكموا بابل وأكد وآشور؟
إنه ربكم، يا جماعة، الذي تطلقون عليه ألقابا تكاد اللغة تعجز عن التعبير عنها من تعابير العظمة والعلم والحكمة، فلماذا تعجزون عن تقديم الدليل على أنه كان هنا في يوم ما؟
إن البرهنة على وجوده هي قضية المسلمين وليس قضيتنا!
ليتمتعوا بحسن العقل والحكمة ولينهوا هذه المشكلة:
- اعطونا دليلاً حسياَ، كما تطالبونا أنتم بها، على أن ربكم كان هنا، أو خاطب بشراً.
أكرر: دليلاً وليس آية قرآنيه من نوع "إن الله على كل شيء قدير"!
الجواب:
-صمت ....
3.
لا أريد أن أبالغ في غياب المسعى من جانب المسلمين في توليف بعض الحكايات عن مخاطبة "الله" لعباده. فقد بذلوا ما في وسعهم، لكن مساعيهم، لسوء حظهم، لم تثمر إلا عن حكايات في غاية الضعف التقني والتماسك والمصداقية (ابذلوا جهداً أكبر لوسمحتم!).
فاليهود قالوا أن الله كلم موسى على الجبل (طبعاً من وراء ستار، غبار، ضباب، دخان – لا أحد يعلم!). ولم تفلح توسلات موسى لرؤية الله "وَلَمَّا جَاءَ مُوسَى لِمِيقَاتِنَا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ قَالَ رَبِّ أَرِنِي أَنظُرْ إِلَيْكَ قَالَ لَن تَرَانِي وَلَكِنِ انظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا وَخَرَّ مُوسَى صَعِقًا فَلَمَّا أَفَاقَ قَالَ سُبْحَانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ وَأَنَاْ أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ"!
إما المسيحيون فإن حكايتهم أكثر تطوراً ودرامية وفيها الكثير من تقنيات الأدب الإغريقي فجعلوا يسوع ابناً لله (يعطيكم العافية!). ومن المنطقي في هذه الحالة أن يرى ويكلم الابن أباه؟!
طوبا لمن كلَّمَ أباه في البرية،
فحدثه عن نفسه وآلامه!
وجهاً لوجه كانا،
وحين سالت دموع "يسوع" على خديه،
اقترب منه أبوه واحتضن رأسه.
طوبا للأب،
طوبا للابن!
[ملاحظة: هذا كلام من عندي]
4.
ثم جاء دور محمد [هنا تغص البشرية بالعبرات]:
لقد كان أضعف نقطة في سلسلة الأنبياء الإبراهيميين. وهذا أمر نأسف له، ولكن ليس في اليد حيلة. فهو كان بعيداً جداً عن ربه ولم يسمح له حتى بالإقتراب أو تكليمه. بل أن أهل السماء (في معراجه!) من السماء الأولى إلى السابعة لم يتعرفوا عليه وقد كانوا يجهلونه تماماً ويجهلون اسمه ولولا جبرائيل (والحمد لله) لطروده من هناك.
قلت لم يسمح له حتى بالإقتراب أو تكليمه. لأنهم كما يروون لنا في حدوتة المعراج وحين دنا من سدرة المنتهى فإنه قد " دَنَا الْجَبَّارُ رَبُّ العِزَّةِ، فَتَدَلَّى حَتَّى كَانَ مِنْهُ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى". وها هم كالعادة يتملصون "بالكلام" فلو كان الأمر كما قالوا قد اقترب منه" قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى"، فلماذا لم يكلمه بل "أَوْحَى إِلَيْه"؟
وكما يقول لنا المفسرون بأن "قَابَ قَوْسَيْنِ" هو : قدر قوسين، و "أَوْ أَدْنَى " أي: أقرب من القوسين، وهذا كما يقولون يدل على كمال المباشرة "للرسول" بالرسالة، وأنه لا واسطة بينه وبين جبريل "عليه السلام!". فهل كان "قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى" من ربه أم من جبريل؟
[الحق أن الأمر لا يهمني لا من قريب ولا من بعيد]
5.
في انتظار غودو
من فضاءات الثقافة العالمية:
"لا شيء يحدث لا أحد يجيء"!
هذا هو جوهر فكرة واحدةٍ من أشهر الأعمال المسرحية في القرن العشرين: "في انتظار غودو" 1952 للكاتب الفرنسي صموئيل بيكيت. وعند ترجمتها إلى اللغة الإنجليزية أطلق عليها أحد النقاد الإنجليز مصطلح "مسرح العبث". وقد ظل هذا المصطلح قائماً حتى الآن.
وكما يبدو من العنوان فإن هناك من ينتظر "غودو" (ألا يذكركم غودو هذا بغودو آخر Godot.
؟ ) وهما فلاديمير وأسترغون، وهما يتكلمان بكل ما يخطر على بالهما، وفي بعض الأحيان يقعان في تكرار ممل، ولا هدف لهما غير انتظار غودو ثم تأتي شخصيات أخرى، وتشترك هي أيضاً في الكلام عن قدوم "غودو" ثم تغادر مثلما جاءت. وبعد ذلك يغادر الجميع وتبقى خشبة المسرح فارغة إلا من شجرة بلا أغصان والعديد من الأسئلة العالقة في فضاء تفكير المتفرجين:
من هو "غودو Godot"؟
هل هذا هو اسمه الحقيقي؟
هل جاء في لحظة ما ولم يره أحد؟
وإذا لم يجيء لحد الآن فهل سيأتي في لحظة ما بعد أن يغادر الجميع؟
بغض النظر عن الإجابة وعدم الإجابة فإن ما هو غير قابل للنقاش شيء واحد لا غير:
لا شيء يحدث لا أحد يجيء!
هل وصلت الرسالة؟
انتظروا مجيئه!
أتمنى لكم التوفيق في انتظاركم!
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق