مقدمة عامة:
ينبغي التأكيد مسبقا، إنَّ مناقشتنا لمكانة الشيطان في
الإسلام لا علاقة لها بموقفنا من "الله" و"الوحي"
و"عقائد المسلمين". فمصدر اهتمامنا ينبع من محاولات الكشف عن
"الوجه الآخر" الذي تتراكم فوقه أطنان من الكلام وتخفي تهافت الفكر
الديني الإسلامي من جهة، والبرهنة على أنَّ الدين ليس
شيئاً آخر غير وعي معكوس للعالم. إذ أن هذا الفكر يناقض أبسط حالات العقل
ومستوياته ليس بصورة لاواعية فقط، بل وتجنيد كلَّ ما تبقى من هذا الوعي .
1.
على المسلم أن يعترف بواحد من الاحتمالين التاليين:
إمَّا أنَّ ما تقوله الكتب عن "الوحي"
و"الله" و"محمد" مجرد كلام لا معنى له وإنَّ ما وِصِفَ به
"قرآنهم" لا يتعدى إن يكون نوعاً من الأوهام والخرافات التي جعلت لها
التقاليد التاريخية وتواطئ الدولة قوة يخضع لها الناس لجهلهم وانحطاط تفكيرهم؛
وإما أنَّ قصص "إغواء الشيطان" والمئات غيرها
سخافات لا مكان لها في تاريخ "دينهم القويم"!
إنَّ عليهم الاختيار والاعتراف بأحد الأمرين. الأمر لا يتعلق
بمسألة "الصدق". فالصدق مفهوم لا يعني شيئاً في العقيدة الدينية لإنه من
حيث المبدأ موضوع للحقيقة وليس للوَهْم. أمَّا ـ"الإيمان" الديني فهو
الوَهْمُ بعينه الذي يحل مَحَلَّ الواقع العيني ويدير ظهره لكل حقائق الوجود.
ففكرة هذا الاختيار قد تخفف من وطأة جحودهم للعقل وتسخيره
كبغل حامل للنفايات!
2.
لا يخشى دين من غواية "الشَّيطان" وسلطته مثلما
يخشى الإسلام!
وإذا ما ألقينا نظرة سريعة على "خشية" المسلمين من
الشيطان وفزعهم منه لابد أن نرى بأنه قد وصل حداً يتعدى حدود خشيتهم حتى من ربهم!
إذ أن مدونات الإسلام ذاتها تخبرنا كيف أن محمداً نَفْسَهُ
لم ينجُ من حبائل الشيطان وغوايتة. فقد ألقى الشيطان في فمه آياتٍ رغم إرادته
وإرادة ربه وهو الرب الذي "وَعِندَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لاَ يَعْلَمُهَا
إِلاَّ هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِن وَرَقَةٍ
إِلاَّ يَعْلَمُهَا وَلاَ حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الأَرْضِ وَلاَ رَطْبٍ وَلاَ
يَابِسٍ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ!"[1] واضطره أن يقول، أو كما يحلو
لكُتَّاب المسلمين القول "ألقى الشيطان في أمنيته" في "سورة
النجم" وبعد الآيتين [أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّىٰ، وَمَنَاةَ
الثَّالِثَةَ الْأُخْرَىٰ][2] ما نصَّه: [تِلْكَ الغَرَانِيقُ
العُلَى إنَّ شَفَاعَتُهُّنَّ لتُرْتَجَى]! وهكذا يعترف "رسول الإسلام"
برفعة وسمو الأصنام التي يحارب ضدها! أمَّا ما تلى فيما بعد من محاولات
"التخريج" و"التبرير" و"التأويل" فهي لم تكن إلا
جهوداً يائسة لتوجيه الأنظار بعيداً عن الحقائق ـ وهي "تقنيات" يختص بها
الكتاب المسلمون بجدارة!
3.
تكشف هذه "الحكاية" لنا عن مفارقة
كبيرة ـ دينية وعقلية على حَدٍّ سواء!
ليس ثمة قضية أكبر من هذه القضية تناقضاً مع المنطق الديني
لطبيعة "الوحي" الذي يقوم المسلمون أنفسهم بتوصيفه بمئات (وربما آلاف)
الكتب وذلك باعتباره كلام الله المُدَوَّن في "اللوح المحفوظ"،
"غير ذي عوج"، ["وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَى، إِنْ هُوَ إِلَّا
وَحْيٌ يُوحَىٰ "][3] والذي لا يمكن لأحدٍ تبديله أو
تحريفه، المعجزة التي شرَّف الله فيها محمداً، "حبيب الله" و"آخر
الرسل والأنبياء" و..الخ من الأوصاف التي تعجز أية لغة أخرى عن سردها
وترديدها!
فكيف، إذن، استطاع "الشيطان" هذا، وحده، وهو:
(الرَّجيم والوسواس الخناس والمارد) أن يفعل فعله وينجح "علناً وعلى رؤوس
الأشهاد" ومن غير عَوْنٍ من أحدٍ أنْ يُحَرِّفَ "الوحي" ويغوي
"آخر الرسل والأنبياء" ويضطره على قول ما لا يريد وأن يعترف بما لا
يؤمن؟!
فهل يدرك المسلمون فداحة الأمر؟
إنَّه لأمر لا يمكن عبوره هكذا وكأن الكلام صناعة مجانية لا
دلالات لها ولا نتائج!
4.
ولو أنَّ الأمر لم يتعد هذا الحدِّ، فربما كُنَّا قد
تناسيناه وكأنَّه خرافة مثل جميع الخرافات التي تمتلئ بها كتب المسلمين. غير أنَّ
ألأمر يتعدى حدود الخرافة المجردة. إذ إنَّه يخفى "لعبة دينية" خطرة،
ربما تكون من الجوانب التي قلما يلتفت إليها النقاد.
إنَّ غالبية البشر، وأصحاب العقائد الدينية على اختلافها،
على معرفة تامة بعجزهم عن الخضوع المطلق لأية تعاليم. وحين "تُسَجَّل"
هذه التعاليم باسم ربٍّ "يستوي على عرش" في مكان ما من غياهب الغيب، أو
في أفضل الأحوال معلقاً ما بين السُّحب؛ لم يره أحداً أو يشعر بوجود له أو
يعرف شيئاً آخر غير وجوده الأسطوري؛ و"استحدثوا" عالماً يأوي إليه
الموتى ما عاد أحدٌ منه، فإنَّ تَفَتُّتَ الإيمان والملل من هذا الربِّ وانهيار
الأمل بعدالته سوف تتسرب لا محالة إلى وعيهم وتبدأ عملية تنازلات وانسحابات مكشوفة
أو متسترة، كبيرة أو صغيرة، وعلى مستويات مختلفة، عن هذه التعاليم[4]. حينئذ يصطدم "القائمون" على
"تسيير العقيدة" بِوَضْعٍ لا يمكن التغلب عليه يتعلق بنقض مصداقية هذه
التعاليم. وهذا ما شَكَّلَ منذ بداية ظهور الإسلام ولايزال يُشَكِّلُ خطراً على
وجود السلطة الدينية (والسلطة الدينية تعني أيضاً مصالح مادية وامتيازات). ولهذا
لابدَّ من "صنع" آلية تستبق مثل هذه "التنازلات والانسحابات"، هي
من خارج "الوحي" رغن أنه مفترض من قِبَلِه وقد كانت هذه الآلية
بجدارة هي: الشَّيْطَان:
[كَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ
عَدُوًّا شَيَاطِينَ الإِنسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ
الْقَوْلِ غُرُورًا وَلَوْ شَاء رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَمَا
يَفْتَرُونَ][5].
لم تكن هذه "التقنية" حكراً على الإسلام. فجميع
العقائد، أو أغلبها، تشير في كتبها المقدسة إلى تحذير الرب (مهما كان اسمه في كل
عقيدة) من دسائس الشيطان وغوايته: وبالتالي فإنهم يوفرون للناس أعذاراً هي
من صميم الدين وحدوده. إنَّهُ قوة صانعها الله نفسه، هو امتحان واختبار للعقيدة
والإيمان!
لكن وجود الشيطان الغاوي وحده، هي "تقنية" لا
تكفي. إذ لابد من إيجاد طريقة للعودة من جديد، لابد من وجود خُطَّة للرجعة عن
الغواية، فنراهم يقومون بصناعة آلية أخرى للعودة إلى ما قبل الخطوط
المُتُجَاوَزَةِ وهي تتمثل بمنظومة من "العلاجات" والحلول
كـ"الصلوات" و"التعاويذ" و"الكفَّارات" التي تُبطل
مفعول ما قام به الشيطان وتعيد الغاوي إلى حظيرة ربه!
وهكذا يُصبح "الشيطان" ليس وسيلة للغواية وحسب، بل
ووسيلة للعودة إلى القطيع!
الجزء[2] ⏪⏪
[1] سورة "الأنعام" ـ الآية 59
[2] سورة النجم ـ الآيتان 19 و20
[3] سورة "النجم" ـ الآيتان 3 و4
[4] إنَّ من الأمثلة البارزة مثلاً هو حركة الردة التي انتشرت بين الكثير من الناس من القبائل ورفض التقيد بالكثير من العقائد الإسلامية حالما علموا بموت محمد. وقد قادت هذه الردة إلى حروب مدمرة راح ضحيتها الآلاف من القتلى. وبفضل جسامة هذه الأحداث فإن "التاريخ الإسلامي" لم يستطع التستر عليها. وعلى امتداد هذا التاريخ حدثت عشرات الثورات والانتفاضات ضد الظلم وغياب العدالة واستهتار رجال الحكم والدين على حد سواء (فإلى جانب الثورات الشيعية التي تكررت بأشكال مختلفة وبقيادة مختلفة على امتداد الخلافتين الأموية والعباسية، فإن هناك ثورات وضعت بصامتها على التاريخ الإسلامي مثل ثورة الزط وثورة الزنج وثورة عمر بن حفصون في الأندلس وثورة القرامطة وثورة يعقوب بن ليث وغيرها العشرات) والتي سُحقت جميعها بقوة النار والحديد، منها ما استمر لسنوات عديدة وهز أركان دولة الخلافة. وبالإضافة إلى هذا كله فإن تاريخ "الدولة العربية ـ الإسلامية" منذ تأسيسها حتى الآن تجابه حركة معارضة مستمرة وبأشكال مختلفة تتجسد في رفض التقيد بالطقوس والعقائد الإسلامية.
[5] سورة "الأنعام" ـ الآية 112.
المسلمون والشيطان (2): العلاج من الشيطان
x
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق